فصل: تفسير الآيات رقم (146- 147)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعالبي المسمى بـ «الجواهر الحسان في تفسير القرآن» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏146- 147‏]‏

‏{‏الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ‏(‏146‏)‏ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ‏(‏147‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين آتيناهم الكتاب يَعْرِفُونَهُ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ الضمير في يعرفونه عائدٌ على الحق في القبلة، والتحوُّل إلى الكعبة، قال ابن عبَّاس وغيره، وقال مجاهدٌ وغيره‏:‏ هو عائدٌ على محمَّد صلى الله عليه وسلم، أي‏:‏ يعرفون صدْقَه ونبوَّته‏.‏

* ت *‏:‏ بل وصفاتِهِ‏.‏

‏{‏وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الحق‏}‏‏:‏ الفريقُ‏:‏ الجماعةُ، وخص، ‏[‏لأن‏]‏ منهم من أسلم ولم يكتم والإشارة بالحق إلى ما تقدَّم على الخلاف في ضمير ‏{‏يَعْرِفُونَهُ‏}‏ ‏{‏وَهُمْ يَعْلَمُونَ‏}‏ ظاهرٌ في صحَّة الكفر عناداً‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الحق مِن رَّبِّكَ‏}‏، أي‏:‏ هو الحق، ‏{‏فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين‏}‏‏:‏ الخطاب للنبيِّ صلى الله عليه وسلم والمرادُ أمَّته، وامترى في الشيء، إِذا شك فيه؛ ومنه‏:‏ المراءُ، لأن هذا يشك في قول هذا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏148- 151‏]‏

‏{‏وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏148‏)‏ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ‏(‏149‏)‏ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ‏(‏150‏)‏ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ‏(‏151‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ‏}‏‏:‏ الوجهةُ‏:‏ من المواجهة؛ كالقبلة، والمعنى‏:‏ ولكلِّ صاحبِ ملَّة وجهةٌ هو مولِّيها نفْسَه، قاله ابن عَبَّاس وغيره‏.‏

وقرأ ابن عامر‏:‏ «هُوَ مَولاَّهَا»، أيْ‏:‏ اللَّه مُوَلِّيها إياهم، ثم أمر تعالى عباده باستباق الخَيْرات، والبدارِ، إلى سبيل النجاة، وروى ابن المُبَارك في «رقائقه» بسنده؛ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ مَنْ فُتِحَ لَهُ بَابٌ مِنَ الخَيْرِ فَلْيَنْتَهُزْهُ، فَإِنَّهُ لاَ يَدْرِي، متى يُغْلَقُ عَنْهُ ‏"‏ انتهى‏.‏

ثم وعظهم سبحانه بذكْر الحشر موعظةً تتضمَّن وعيداً وتحذيراً‏.‏

* ص *‏:‏ «أينما» ظرفٌ مضمَّن معنى الشرط في موضعِ خَبَرِ «كان»‏.‏ انتهى‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏يَأْتِ بِكُمُ الله جَمِيعًا‏}‏ يعني به البعْثَ من القبور‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا الله بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ‏}‏ معناه‏:‏ حيثُ كنْتَ، وأَنى توجَّهْتَ من مشارقِ الأرض، ومغاربِها، وكرَّرت هذه الآية؛ تأكيداً من اللَّه سبحانه؛ لأن موقع التحويلِ كان صَعْباً في نفوسهم جدًّا، فأكَّد الأمر؛ ليرى الناسُ التهمُّم به، فيخفَّ عليهم وتسكُنَ نفوسُهم إليه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ المعنى‏:‏ عرفتكم وجه الصواب في قبلتكم، والحجة لذلك؛ لئلاَّ يكون للناسِ عليكم حجةٌ، والمراد ب «النَّاس» العمومُ في اليهودِ والعربِ وغيرهم ‏{‏إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ‏}‏، أي‏:‏ من المذكورين ممَّن تكلَّم في النازلة في قولهم‏:‏ ‏{‏مَا ولاهم عَن قِبْلَتِهِمُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 142‏]‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلاَ تَخْشَوْهُمْ واخشوني‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ ‏[‏فيه‏]‏ تحقيرٌ لشأنهم، وأمر باطراح أمرهم، ومراعاة أمره سبحانه، قال الفَخْر‏:‏ وهذه الآية تدلُّ على أن الواجب علَى المَرْء في كلِّ أفعاله وتروكه؛ أن ينصب بين عينيه خشيةَ ربه تعالى، وأن يعلم أنه ليس في أيدي الخَلْقِ شيء البتَّةَ وألاَّ يكون مشتغل القَلْب بهم، ولا ملتفت الخاطر إلَيْهِم‏.‏ انتهى‏.‏

قال‏:‏ * ص *‏:‏ ‏{‏إِلاَّ الذين‏}‏ استثناءٌ متَّصِلٌ، قاله ابن عباس وغيره، أي‏:‏ لئلاَّ تكون حجةٌ من اليهود المعاندين القائلين ما ترك قبلتنا، وتوجَّه للكعبة إِلاَّ حبًّا لبلده، وقيل‏:‏ منقطع، أي‏:‏ لكن الذين ظلموا منهم؛ فإِنهم يتعلَّقون عليكم بالشُّبَه، وزعم أبو عُبَيْدة مَعْمَرُ بْنُ المثنى‏:‏ إن «إِلاَّ» في الآية بمعنى «الواو»، قال ومنه‏:‏ ‏[‏الوافر‏]‏‏:‏

وَكُلُّ أَخٍ مُفَارِقُهُ أَخُوه *** لَعَمْرُ أَبِيكَ إِلاَّ الفَرْقَدَانِ

أي‏:‏ والَّذين ظلموا، وَالفَرْقَدَان، ورُدَّ بأنَّ «إِلاَّ» بمعنى الواو ولا يقوم علَيْه دليلٌ‏.‏ انتهى‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ‏}‏ أمر باستقبال القبْلَة، وهو شرطٌ في الفرض إِلاَّ في القتالِ حالة الالتحامِ، وفي النوافل إِلا في السفرِ الطويلِ للرَّاكب، والقدرةُ على اليقينِ في مصادفتها تَمْنَعُ من الاِجتهادِ، وعلى الاِجتهادِ تَمْنَعُ من التقليد‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ‏}‏ عطْفٌ على قوله‏:‏ «لَئِلاَّ» وقيل‏:‏ هو في موضع رفع بالاِبتداء، والخبرُ مضمرٌ، تقديره‏:‏ ولأتمَّ نعمتي عليكم، عرَّفتكم قبلتي، ونحوهُ، ‏{‏وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ‏}‏ ترجٍّ في حقِّ البشر، والكافُ في قوله‏:‏ «كَمَا» ردٌّ على قوله‏:‏ «وَلأُتِمَّ»، أي‏:‏ إِتماماً كما، وهذا أحسنُ الأقوال، أي‏:‏ لأتم نعمتي عليكم في بيان سُنَّة إِبراهيم عليه السلام؛ ‏{‏كَمَآ أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ‏}‏ إِجابة لدعوته في قوله‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا وابعث فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 129‏]‏‏.‏

وقيل‏:‏ الكاف من «كمَا» رَدٌّ على «تَهْتَدُونَ»، أي‏:‏ اهتداء كما‏.‏

قال الفَخْر‏:‏ وهنا تأويلٌ ثالثٌ، وهو أن الكاف متعلِّقة بما بعدها، أي‏:‏ كما أرسلنا فيكم رسولاً، وأوليتكم هذه النعم، ‏{‏فاذكرونى أَذْكُرْكُمْ واشكروا لِي‏.‏‏.‏‏}‏ الآيةَ‏:‏ انتهى‏.‏

* ت *‏:‏ وهذا التأويل نقله الدَّاوُودِيُّ عن الفراء‏.‏ انتهى، وهذه الآيةُ خطابٌ لأمة محمَّد صلى الله عليه وسلم و‏{‏ءاياتنا‏}‏ يعني‏:‏ القُرآن، و‏{‏يُزَكِّيكُمْ‏}‏، أي‏:‏ يطهركم من الكفر، وينمِّيكم بالطاعة، و‏{‏الكتاب‏}‏‏:‏ القُرآن، و‏{‏الحكمة‏}‏‏:‏ ما يتلقى عنه صلى الله عليه وسلم من سنَّةٍ، وفقْهٍ، ودينٍ، وما لم تكونوا تعلمون قصص من سلف، وقصص ما يأتي من الغيوب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏152- 153‏]‏

‏{‏فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ ‏(‏152‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ‏(‏153‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاذكرونى أَذْكُرْكُمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ قال سعيد بن جُبَيْر‏:‏ معنى الآية‏:‏ اذكروني بالطاعةِ، أذكركم بالثواب‏.‏

* ت *‏:‏ وفي تفسير أحمد بن نصر الداووديِّ‏:‏ وعن ابن جُبَيْر‏:‏ اذكروني بطاعتِي، أذكرْكُمْ بمغفرتي، وروي أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ مَنْ أَطَاعَ اللَّهَ، فَقَدْ ذَكَر اللَّهَ، وإِنْ قلَّت صلاته، وصيامه، وتلاوته القُرآن، ومن عَصَى اللَّه، فقد نَسِيَ اللَّه، وإِن كَثُرَتْ صلاته، وصيامه، وتلاوته القُرآن ‏"‏ انتهى‏.‏

وروى ابن المبارك في «رقائقه» بسنده عن أنس بن مالك، قال‏:‏ ‏"‏ مَا مِنْ بُقْعَةٍ يُذْكَرُ اللَّهُ عَلَيْهَا بصَلاةٍ أو بذكْرٍ إِلاَّ افتخرت على ما حَوْلَهَا من البِقَاعِ، واستبشَرَتْ بذكْر اللَّه إِلى منتهاها منْ سبعِ أرَضِينَ، وما مِنْ عَبْدٍ يقومُ يصلِّي إِلا تزخرفَتْ له الأرض ‏"‏ قال ابنُ المُبَارك‏:‏ وأخبرنا المسعوديُّ عن عَوْنِ بنِ عبدِ اللَّهِ، قال‏:‏ الذاكِرُ في الغافِلِينَ؛ كالمقاتل خَلْف الفارِّين‏.‏ انتهى‏.‏

وقال الربيعُ والسِّدّي‏:‏ المعنى‏:‏ اذكروني بالدعاءِ والتسبيحِ ونحوه، وفي صحيح البخاريِّ ومسلمٍ وغيرهما عن أبي هريرة- رضي اللَّه عنه-، قال‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وتعالى‏:‏ «أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ، ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلإِ، ذَكَرْتُهُ فِي مَلإِ خَيْرٍ مِنْهُمْ‏.‏‏.‏‏.‏» ‏"‏ الحديثَ‏.‏ انتهى‏.‏

‏{‏واشكروا لِي‏}‏، أي‏:‏ نعمي وأيادِيَّ، ‏{‏وَلاَ تَكْفُرُونِ‏}‏‏:‏ أي‏:‏ نعمي وأياديَّ‏.‏

* ت *‏:‏ وعن جابر قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ على عَبْدٍ مِنْ نِعْمَةٍ، فَقَالَ‏:‏ الحَمْدُ لِلَّهِ إِلاَّ وَقَدْ أدى شُكْرَهَا، فَإِنْ قالها الثانيةَ، جدَّد اللَّهُ لها ثوابَهَا، فَإن قالها الثالثةَ، غفر اللَّه له ذُنوبَه ‏"‏ رواه الحاكمُ في «المستَدْرَكِ»، وقال‏:‏ صحيح‏.‏ انتهى من «السِّلاح»‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله مَعَ الصابرين‏}‏، أي‏:‏ بمعونته وإِنجاده‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏154- 157‏]‏

‏{‏وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ ‏(‏154‏)‏ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ‏(‏155‏)‏ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ‏(‏156‏)‏ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ‏(‏157‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَقُولُواْ لِمَن يُقْتَلُ فِى سَبيلِ الله أَمْوَاتٌ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ سببها أن الناس قالوا فيمن قتل ببدر وأُحُدٍ من المؤمنين‏:‏ مَاتَ فلانٌ، ماتَ فلانٌ، فكره اللَّه سبحانه؛ أن تُحَطَّ منزلةُ الشهداءِ إِلى منزلة غيرهم، فنزلَتْ هذه الآية، وأيضاً‏:‏ فإِن المؤمنين صَعْبٌ عليهم فراقُ إِخوانهم وقراباتِهِمْ، فنزلَتِ الآيةُ مسلِّية لهم، تعظِّم منزلة الشهداءِ، وتخبر عن حقيقةِ حالِهِمْ، فصاروا مغبوطين لا محزوناً لهم؛ ويظهر ذلك من حديث أُمِّ حارثَةَ في السِّيَرِ‏.‏

* ت *‏:‏ وخرَّجه البخاريُّ في «صحيحه» عن أنسٍ، قال‏:‏ ‏"‏ أُصِيبَ حارثةُ يوم بَدْر أصابه غَرْبُ سَهْمٍ، وهو غلامٌ، فجاءَتْ أُمُّهُ إِلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقالَتْ‏:‏ يا رسُولَ اللَّهِ، قد عَرَفْتَ مَنْزِلَةَ حَارِثَةَ مِنِّي، فَإِنْ يَكُ فِي الجَنَّةِ أَصْبِرْ، وَأَحْتَسِب، وَإِن تَكُن الأخرى، ترى مَا أَصْنَعُ، فَقَالَ‏:‏ وَيْحَكِ، أَوَ هُبِلْتِ، أَو جَنَّةٌ وَاحِدَةٌ هَيَ؛ إنَّهَا جِنَانٌ كَثِيرَةٌ، وَإِنَّهُ فِي الفِرْدَوْسِ الأعلى‏.‏‏.‏‏.‏ ‏"‏ الحديثَ‏.‏ انتهى‏.‏

* ع‏:‏ والفرق بين الشهيدِ وغيرهِ إِنما هو الرِّزْقُ، وذلك أنَّ اللَّه تعالى فضَّلهم بدوام حالِهِمُ التي كانَتْ في الدنيا فرزَقهُم‏.‏

* ت *‏:‏ وللشهيدِ أحوالٌ شريفةٌ منها ما خرَّجه الترمذيُّ وابن ماجة عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ ‏"‏ لِلشَّهِيدِ عِنْد اللَّهِ سِتُّ خِصَالٍ؛ يُغْفَرُ لَهُ فِي أَوَّلِ دَفْعَةٍ، ويرى مَقْعَدَهُ مِنَ الجَنَّةِ، وَيُجَارُ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ، وَيَأْمَنُ مِنَ الفَزَعِ الأَكْبَرِ، وَيُوضَعُ على رَأْسِهِ تَاجُ الوَقَارِ، اليَاقُوتَةُ مِنْهُ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا، ومَا فِيهَا، وَيُزَوَّجُ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ زَوْجَةً مِنَ الحُورِ الْعِينِ، وَيَشْفَعُ فِي سَبْعِينَ مِنْ أقْرِبَائِهِ ‏"‏ قال الترمذيُّ‏:‏ هذا حديثٌ حَسَنٌ غريبٌ، زاد ابن ماجَة‏:‏ ‏"‏ ويحلى حُلَّةَ الإِيمَانِ ‏"‏، قال القرطبيُّ في «تذكرته»‏:‏ هكذا وقع في نسخ الترمذيِّ وابن ماجة‏:‏ «ستَّ خِصَالٍ» وهي في متن الحديث سَبْعٌ، وعلى ما في ابن ماجة‏:‏ «ويحلى حُلَّةَ الإِيمَانِ» تكون ثمانياً، وكذا ذكره أبو بكر أحمد بن سَلْمَان النَّجَّاد بسنده عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ لِلشَّهِيدِ عِنْدَ اللَّهِ ثَمَانِ خِصَالٍ ‏"‏ انتهى‏.‏ وخرَّج الترمذيُّ، والنسائِيُّ عنْه صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ الشَّهِيدُ لاَ يَجِدُ أَلَمَ القَتْلِ إلاَّ كَمَا يَجِدُ أَحَدُكُمْ أَلَمَ القَرْصَةِ ‏"‏ انتهى‏.‏

* ع *‏:‏ روي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ أنَّ أرْوَاحَ الشُّهَدَاءِ فِي حَوَاصِلِ طَيْرٍ خُضْرٍ تُعَلَّقُ مِنْ ثَمَرِ الجَنَّةِ ‏"‏، وروي‏:‏ ‏"‏ أَنَّهُمْ فِي قُبَّةٍ خَضْرَاءَ ‏"‏، ورويَ‏:‏ ‏"‏ أنهم في قَنَادِيلَ مِنْ ذَهَبٍ ‏"‏، إِلى كثير من هذا، ولا محالة أنها أحوالٌ لِطَوَائِفَ، أو للجميع في أوقات متغايرة‏.‏

* ت *‏:‏ وكذا ذكر شَبِيبُ بن إِبراهيم في كتاب «الإِفصاح» أنَّ المنعَّمين على جهاتٍ مختلفةٍ؛ بحسب مقاماتهم وتفاوتهم في أعمالهم، قال صاحب «التذكرة»‏:‏ وهذا قول حَسَنٌ، وبه يجمع بين الأخبار حتى لا تتدافع‏.‏

انتهى‏.‏

قال‏:‏ * ع *‏:‏ وجمهور العلماء على أنهم في الجَنَّة؛ ويؤيِّده قولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لأمِّ حَارِثَةَ‏:‏ «إِنَّهُ فِي الفِرْدَوْسِ الأعلى»‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ هم خارجُ الجَنَّةِ ويعلَّقون من شجرِهَا، وفي «مختصر الطبريِّ»، قال‏:‏ ونهى عزَّ وجَلَّ أنْ يقال لِمَنْ يقتلُ في سبيلِ اللَّهِ أمْوَاتٌ، وأعْلَمَ سبحانه أنهم أحياءٌ، ولكنْ لا شعورَ لَنَا بذلك؛ إذ لا نُشَاهِدُ باطنَ أمرهم، وخُصُّوا مِنْ بين سائر المُؤمنين، بأنهم في البَرْزَخِ يرزَقُون من مطاعِم الجَنَّة ما يُرْزَقُ المؤمنون من أهْل الجنة على أنه قد ورد في الحديثِ‏:‏ ‏"‏ إِنَّمَا نَسَمَةُ المُؤْمِنِ طَائِرٌ يُعَلَّقُ فِي شَجَرِ الجَنَّةِ ‏"‏، ومعنى‏:‏ «يُعَلَّق»‏:‏ يأكل؛ ومنه قوله‏:‏ ما ذقْتُ عَلاقاً، أي‏:‏ مأكلاً، فقد عم المؤمنين؛ بأنهم يرزقُونَ في البرزخ من رزق الجنة، ولكن لا يمتنعُ أن يخصَّ الشهداء من ذلك بقَدْر لا يناله غيرهم، واللَّه أعلم‏.‏ انتهى‏.‏

وروى النسائيُّ أن رجلاً قال‏:‏ ‏"‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا بَالُ المُؤْمِنِينَ يُفْتَنُون فِي قُبُورِهِمُ إِلاَّ الشَّهِيدَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ كفى بِبَارِقَةِ السُّيُوفِ على رَأْسِهِ فِتْنَةً ‏"‏ انتهى‏.‏

* ت *‏:‏ وحديثُ‏:‏ ‏"‏ إِنَّمَا نَسَمَةُ المُؤْمِنِ طَائِرٌ ‏"‏ خرَّجه مالك رحمه اللَّه‏.‏ قال الدَّاووديُّ‏:‏ وحديث مالكٍ، هذا أصحُّ ما جاء في الأرواح، والذي روي أنها تجعل في حواصِلِ طيرٍ لا يصحُّ في النقل‏.‏ انتهى‏.‏

قال أبو عُمَرَ بْنُ عبْدِ البَرِّ في «التمهيد»‏:‏ والأشبه قولُ من قال‏:‏ كَطَيْرٍ أو كصُوَرِ طيرٍ؛ لموافقته لحديثِ «الموطَّإ»، هذا وأسند أبو عمر هذه الأحاديثَ، ولم يذكر مطعناً في إسنادها‏.‏ انتهى‏.‏

ثم أعلمهم تعالى أن الدنيا دارُ بلاءٍ ومحنةٍ، ثم وعد على الصَّبْر، فقال‏:‏ ‏{‏وَلَنَبْلُوَنَّكُم‏}‏ أي‏:‏ نمتحنكم ‏{‏بِشَيْءٍ مِّنَ الخوف‏}‏، أي‏:‏ من الأعداء في الحروبِ، ‏{‏وَنَقْصٍ مِّنَ الأموال‏}‏ أي بالجوانحِ، والمصائبِ، ‏{‏والأنفس‏}‏ بالموت، والقَتْل، ‏{‏والثمرات‏}‏ بالعَاهَاتِ، والمرادُ بشيءٍ من هذا وشيءٍ من هذا، واكتفى بالأول إِيجازاً، ثم وصف سبحانه الصابرين الَّذين بشَّرهم بقوله‏:‏ ‏{‏الذين إِذَا أصابتهم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجعون‏}‏، فجعل سبحانه هذه الكلماتِ ملجأً لذوي المصائبِ؛ لما جمعتْ من المعاني المباركةِ من توحِيدِ اللَّهِ سبحانه، والإِقرار له بالعبودية، والبعثِ من القبورِ، واليقينِ بأنَّ رجوع الأمر كلِّه إِليه؛ كما هو له، قال الفَخْرُ‏:‏ قال أبو بَكْرٍ الوَرَّاق‏:‏ ‏{‏إِنَّا لِلَّهِ‏}‏‏:‏ إقرارٌ منَّا له بالمُلْكِ، ‏{‏وَإِنَّا إِلَيْهِ راجعون‏}‏ إِقرارٌ على أنفسنا بالهلاكِ‏.‏

واعلم أن قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّا لِلَّهِ‏}‏ يدلُّ على كونه راضيًا بكلِّ ما نَزَلَ به، ووردَتْ أخبارٌ كثيرةٌ في هذا البابِ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فمنِ استرجع عند المصيبة، جَبَر اللَّه مصيبته، وأحْسَنَ عقباه، وجعل له خَلَفاً صالحاً يرضَاهُ‏.‏

انتهى‏.‏

ورُوِيَ‏:‏ ‏"‏ أنَّ مَصْبَاحَ رسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم انطفأ ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَقَالَ‏:‏ ‏{‏إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجعون‏}‏، فَقِيلَ‏:‏ أَمُصِيبَةٌ هِيَ، يَا رَسُولَ اللَّهِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ نَعَمْ؛ كُلُّ مَا آذَى المُؤْمِنَ، فَهُوَ مُصِيبَةٌ ‏"‏ قال النوويُّ‏:‏ ورُوِّينَا في «كتاب ابن السُّنِّيِّ» عن أبي هريرة، قال‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ ليسترجعْ أحدُكُمْ في كلِّ شيء، حتى في شِسْعِ نَعْلِه؛ فَإِنها من المصائِبِ ‏"‏ انتهى من «الْحِلْيَةِ»‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك عَلَيْهِمْ صلوات مِّن رَّبِّهِمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ نِعَمٌ من اللَّه تعالى على الصابرين المسترجعين، وصلوات اللَّه على عبده‏:‏ عفْوُهُ، ورحمتُه، وبركته، وتشريفه إِياه في الدنيا والآخرة، وكرَّر الرحْمَة، وهي من أعظم أجزاء الصلاة، لمَّا اختلف اللَّفْظ؛ تأكيداً منه تعالى وشهد لهم بإلهتداء‏.‏

* ت *‏:‏ وفي «صحيح البخاري»‏:‏ وقال عُمَرُ‏:‏ نِعْمَ العدلان، ونَعْمُ العِلاَوة الَّذين إذا أصابتهم مصيبةٌ، قالوا‏:‏ ‏{‏إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجعون‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ إلى ‏{‏المهتدون‏}‏، قال النوويُّ في «الحلية»‏:‏ ورُوِّينا في سنن ابن ماجة، والبيهقيِّ بإِسناد حَسَنٍ عن عمرِو بْنِ حَزْمٍ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ ‏"‏ مَا مِنْ مُؤْمِنٍ يُعَزِّي أَخَاهُ بِمُصِيبَةٍ إِلاَّ كَسَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ حُلَلِ الكَرَامَةِ يَوْم القِيَامَةِ ‏"‏، ورُوِّينا في كتاب الترمذيِّ، والسنن الكَبيِرِ للبيهقيِّ عن ابْنِ مسعودٍ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ ‏"‏ مَنْ عزى مُصَابًا، فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ ‏"‏ إِسناده ضعيف، ورُوِّينا في كتاب الترمذيِّ أيضاً عن أبي هريرة؛ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ ‏"‏ مَنْ عزى ثكلى، كُسِيَ بِرِدَاءٍ فِي الجَنَّةِ ‏"‏ قال الترمذيُّ ليس إِسناده بالقَوِيِّ‏.‏ انتهى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏158‏]‏

‏{‏إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ ‏(‏158‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الصفا والمروة مِن شَعَائِرِ الله‏}‏‏:‏ الصَّفَا‏:‏ جمع صَفَاةٍ، وهي الصَّخْرة العَظيمة، والمَرْوَة واحدةُ المَرْوِ، وهي الحجارة الصِّغَار الَّتي فيها لِينٌ، و‏{‏مِن شَعَائِرِ الله‏}‏ معناه‏:‏ معالمه، ومواضع عبادته، وقال مجاهدٌ‏:‏ ذلك راجعٌ إِلى القول، أي‏:‏ مما أشعركم اللَّه بفضله‏:‏ مأخوذٌ من شَعَرْتُ، إِذا تحسَّست‏.‏

و ‏{‏حَجَّ‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ قصد، وتكرَّر، و‏{‏اعتمر‏}‏‏:‏ زار وتكرَّر مأخوذٌ من عَمَرْتُ الموضعَ، والجُنَاحُ‏:‏ الإِثمُ، والمَيْلُ عن الحقِّ والطاعةِ، ومن اللفظةِ الجناح؛ لأنه في شِقٍّ؛ ومنه‏:‏ ‏{‏وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فاجنح لَهَا‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 61‏]‏ و‏{‏يَطَّوَّفَ‏}‏‏:‏ أصله يتطوَّف، فقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الصفا والمروة‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآيةَ‏:‏ خبر يقتضي الأمر بما عهد من الطواف بهما، وقوله‏:‏ ‏{‏فَلاَ جُنَاحَ‏}‏ ليس المقصودُ منه إباحة الطوافِ لمن شاءه؛ لأن ذلك بعد الأمر لا يستقيمُ، وإِنما المقصودُ رفْعُ ما وقع في نفوسِ قومٍ من العربِ من أنَّ الطوَافَ بينهما فيه حرجٌ، وإِعلامهم أن ما وقع في نفوسهم غيرُ صوابٍ، وفي الصحيح عن عائشَةَ- رضي اللَّه عنها‏:‏ «أنَّ ذَلِكَ فِي الأنْصارِ»‏.‏

ومذهبُ مالكٍ والشافعيِّ؛ أنَّ السعْيَ بينهما فرضٌ لا يجزئ تاركه، إِلاَّ العودة، قال ابنُ العَرَبِيِّ في «أحكامه» والدليلُ على ركنيَّته ما رُويَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أنَّهُ قَالَ‏:‏ ‏"‏ إنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيكُمُ السَّعْيَ، فاسعوا ‏"‏، صحَّحه الدارقطنيُّ؛ ويعضِّده المعنى، فإنه شعار، أي‏:‏ معلم لا يخلو عنه الحجُّ والعمرة، فكان ركناً كالطواف‏.‏ انتهى‏.‏

‏{‏وَمَن تَطَوَّعَ‏}‏‏:‏ أي‏:‏ زاد بِرًّا بعد الواجبِ في جميع الأعمال، وقال بعضهم‏:‏ معناه‏:‏ من تطوَّع بحجٍّ أو عمرةٍ بعد حجَّةِ الفريضةِ، ومعنى ‏{‏شَاكِرٌ‏}‏، أي‏:‏ يبذل الثوابَ والجزاءَ، ‏{‏عَلِيمٌ‏}‏‏:‏ بالنيات والأعمال لا يضيعُ معه لعاملٍ عَمَلٌ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏159- 160‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ‏(‏159‏)‏ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ‏(‏160‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآيةَ‏:‏ المراد ب «الذين»‏:‏ أحبار اليهود، ورهبانُ النصارَى الذين كتموا أمْرَ محمَّد صلى الله عليه وسلم وتتناول الآية بَعْدُ كلَّ من كتم علمًا من دين اللَّه يُحْتَاجُ إلى بَثِّهِ، وذلك مفسَّر في قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ، فَكَتَمَهُ، أُلْجِمَ يَوْمَ القِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنَ النَّارِ ‏"‏‏.‏ قال ابن العربيِّ‏:‏ وللآية تحقيقٌ، وهو أن العَالِمَ إِذا قصد الكتمانَ، عصى، وإِذا لم يقصده، لم يلزمْهُ التبليغُ، إذا عرف أن معه غيره، وقد كان أبو بكر وعمر لا يحدِّثان بكلِّ ما سمعا من النبيِّ صلى الله عليه وسلم إِلاَّ عند الحاجةِ، وكان الزُّبَيْرُ أقلَّهم حديثاً، ثم قال ابنُ العَرَبِيِّ‏:‏ فأما من سئل، فقد وجَبَ عليه التبليغُ لهذه الآية، وأما إِن لم يُسْأل، فلا يلزمُ التبليغ إِلا في القرآن وحْده، وقد ثَبَتَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم في فضيلةِ التبْلِيغِ بأنَّه قال‏:‏ ‏"‏ نَضَّرَ اللَّهُ امرأ سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا، فَأَدَّاهَا كَمَا سَمِعَهَا ‏"‏ انتهى من «أَحْكَامِ القُرْآن»‏.‏

و ‏{‏البينات والهدى‏}‏‏:‏ أمر محمَّد صلى الله عليه وسلم ثم يعمُّ بعدُ كلَّ ما يكتم من خير، و‏{‏فِي الكتاب‏}‏ يراد به التوراةُ والإنجيلُ، ويدخل القرآن في عموم الآية‏.‏

واختلف في «اللاَّعِنينَ»‏.‏

فقال قتادة، والربيع‏:‏ الملائِكةُ والمؤمنون، وهذا ظاهرٌ واضحٌ، وقيل‏:‏ الحشرات والبهائمُ، وقيل‏:‏ جميع المخلوقات ما عدا الثقلَيْن الجِنَّ والإِنْسَ، وهذان القولانِ لا يقتضيهما اللفظُ، ولا يثبتان إلا بسندٍ يقطعُ العُذْر، ثم استثنى اللَّه سبحانه التائبين‏.‏

‏{‏وَأَصْلَحُواْ‏}‏، أي‏:‏ في أعمالهم وأقوالهم‏.‏

‏{‏وَبَيَّنُواْ‏}‏، أي‏:‏ أمر محمَّد صلى الله عليه وسلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏161- 162‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ‏(‏161‏)‏ خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ ‏(‏162‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ هذه الآية محكمةٌ في الذين وَافَوْا على كفرهم، واختلف في معنى قوله‏:‏ ‏{‏والناس أَجْمَعِينَ‏}‏‏:‏ والكُفَّار لا يلعنُون أنفسهم‏.‏

فقال قتادة، والربيع‏:‏ المراد ب ‏{‏الناس‏}‏‏:‏ المؤمنون خاصَّة، وقال أبو العالية‏:‏ معنى ذلك في الآخرة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏خالدين فِيهَا‏}‏، أي‏:‏ في اللعنة، وقيل‏:‏ في النار، وعاد الضمير علَيْها، وإِن لم يَجْرِ لها ذكر؛ لثبوتها في المعنى‏.‏

‏{‏وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ‏}‏، أي‏:‏ لا يُؤَخَّرون عن العذاب، ويحتمل أن يكون من النَّظَر؛ نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ القيامة‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 77‏]‏ والأول أظهر؛ لأن النظر بالعين إنما يعدَّى ب «إلى» إلا شاذًّا في الشعر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏163- 164‏]‏

‏{‏وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ‏(‏163‏)‏ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ‏(‏164‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإلهكم إله واحد‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ إِعلام بالوحدانيّة‏.‏

قال عطاءٌ‏:‏ لما نزلَتْ هذه الآية بالمدينَةِ، قال كفَّار قريشٍ بمكَّة‏:‏ ما الدليلُ على هذا، وما آيته، وعلامته‏؟‏ ونحوه عن ابن المُسَيَّب، فنزل عنْد ذلك قولُه تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِي خَلْقِ السموات والأرض‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، أي‏:‏ في اختراعها وإنشائها‏.‏

و ‏{‏النهار‏}‏‏:‏ من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، يقضي بذلك قولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ‏:‏ ‏"‏ إِنَّمَا هُوَ بَيَاضُ النَّهَارِ، وَسَوَادُ الَّليْلِ ‏"‏، وهذا هو مقتضى الفقْهِ في الأيْمَانِ ونحوها، وأما على ظاهر اللغة، وأخذه من السعة، فهو من الإِسْفَار، وقال الزَّجَّاج في «كتاب الأنوار»‏:‏ أَوَّلُ النهارِ ذُرُورُ الشمسِ، قال‏:‏ وزعم النَّضْرُ بن شُمَيْلٍ؛ أن أول النهار ابتداءُ طلوعِ الشمسِ، ولا يعدُّ ما قبل ذلك من النَّهار‏.‏

قال‏:‏ * ع *‏:‏ وقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم هو الحَكَم‏.‏

‏{‏والفلك‏}‏‏:‏ السُّفُن، ومفرده وجمعه بلفظ واحد‏.‏

‏{‏وَمَا أَنزَلَ الله مِنَ السماء مِن مَّاءٍ‏}‏ يعني به الأمطارَ، ‏{‏وَبَثَّ‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ فرق، وبسط، و‏{‏دَآبَّةٍ‏}‏‏:‏ تجمع الحيوان كلَّه‏.‏

و ‏{‏وَتَصْرِيفِ الرياح‏}‏‏:‏ إِرسالها عقيماً، وملقَّحة وَصِرًّا ونَصْراً وهلاكاً وجنوباً وشَمالاً وغير ذلك، والرِّيَاحُ‏:‏ جمع ريحٍ، وجاءت في القرآن مجموعةً مع الرحمة، مفردةً مع العذاب، إِلا في «يُونُسُ» في قوله سبحانَه‏:‏ ‏{‏وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 22‏]‏ وهذا، أغلب وقوعها في الكلام، وفي الحديثِ‏:‏ ‏"‏ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا هَبَّتْ رِيحٌ، يَقُولُ‏:‏ اللَّهُمَّ، اجعلها رِيَاحاً، وَلاَ تَجْعَلْهَا رِيحاً ‏"‏، وذلك لأن ريح العذابِ شديدةٌ ملتئمة الأجزاء، كأنها جسمٌ واحدٌ، وريح الرحمة لينة تجيء من ههنا وههنا متقطِّعة، فلذلك يقال هي رياحٌ، وهو معنى نشر، وأفردت مع الفلك؛ لأن ريح إِجراء السُّفُن، إنما هي واحدةٌ متصلة، ثم وصفت بالطِّيبِ، فزال الاشتراك بينها وبين ريح العذاب، وهي لفظة من ذوات الواوِ، يقال‏:‏ رِيحٌ، وأَرْوَاحٌ، ولا يقال‏:‏ «أَرْيَاحٌ»، وإِنما يقال‏:‏ رِيَاحٌ من جِهة الكَسْرة، وطلب تناسب الياء معها، وقد لُحِّن في هذه اللفظة عُمَارَةُ بْنُ عَقِيلِ بْنِ بِلاَلِ بْنِ جَرِيرٍ، فاستعمل «الأَرْيَاحَ» في شعره، ولُحِّنَ في ذلك، وقال له أبو حَاتِمٍ‏:‏ إِنَّ الأرياحَ لا يجوزُ، فقال‏:‏ أما تَسْمَعُ قولهم‏:‏ رِيَاح، فقال أبو حَاتِمٍ‏:‏ هذا خلافُ ذلك، فقال‏:‏ صدَقْتَ، ورَجَع‏.‏ ‏{‏والسحاب‏}‏‏:‏ جمع سحابَةٍ، سمي بذلك؛ لأنه ينسحبُ، وتسخيره بعثه من مكانٍ إلى آخر، فهذه آيات‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏165- 167‏]‏

‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ ‏(‏165‏)‏ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ ‏(‏166‏)‏ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ ‏(‏167‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنَ الناس مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ الله أَندَادًا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ النِّدُّ‏:‏ النظير، والمقاوم، قال مجاهد، وقتادة‏:‏ المراد بالأنداد‏:‏ الأوثانُ ‏{‏كَحُبِّ الله‏}‏، أي‏:‏ كحبِّكم للَّه، أو كحبِّهم حسبما قَدَّر كلَّ وجه منْها فرقةٌ، ومعنى‏:‏ كَحُبِّهِمْ، أي‏:‏ يسوُّون بين محبَّة اللَّه، ومحبَّة الأوثان، ثم أخبر أن المؤمنين أشدُّ حبًّا للَّه، لإِخلاصهم، وتيقُّنهم الحق‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ يَرَى الذين ظَلَمُواْ‏}‏، أي‏:‏ ولو ترى، يا محمَّد، الذين ظلموا في حال رؤيتهمُ العذابَ، وفزعهم منْه، واستعظامِهِمْ له، لأقرُّوا أن القوة للَّه، أو لعلمتَ أنَّ القوَّة للَّه جميعاً، فجواب «لَوْ»‏:‏ مضمَرٌ؛ على التقديرين، وقد كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم عَلِمَ ذَلِكَ، ولكنْ خوطبَ، والمرادُ أمته‏.‏

وقرأ حمزةُ وغيره بالياء، أي‏:‏ ولو يرى في الدنيا الذين ظلموا حالَهُمْ في الآخرة، إِذ يرون العذابَ، لعلموا أن القوة للَّه‏.‏

و ‏{‏الذين اتبعوا‏}‏ بفتح التاء والباء‏:‏ هم العَبَدة لغير اللَّه الضالُّون المقلِّدون لرؤسائهم، أو للشياطينِ، وتبرِّيهم هو بأنْ قالوا إِنا لم نضلَّ هؤلاء، بل كفروا بإرادتهم‏.‏

والسَّبَبُ؛ في اللغة‏:‏ الحبلُ الرابط الموصِّل، فيقال في كلِّ ما يتمسَّك به فَيَصِلُ بين شيئين، ‏{‏وَقَالَ الذين اتبعوا‏}‏، أي‏:‏ الأتباع‏.‏

والكَرَّة‏:‏ العودة إِلى حال قد كانَتْ كذلك ‏{‏يُرِيهِمُ الله أعمالهم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآيةَ‏:‏ يحتمل أن يكون من رؤية البَصَر، ويحتمل رؤية القلب، أي‏:‏ يريهم اللَّه أعمالهم الفاسدة الَّتي ارتكبوها‏.‏

وقال ابنُ مَسْعود‏:‏ أعمالهم الصالحة التي تركوها، والحَسْرَة‏:‏ أعلى درجات النَّدامة، والهَمِّ بما فات، وهي مشتقَّة من الشيء الحَسِيرِ الذي انقطع، وذهبت قوَّته، وقيل‏:‏ من حَسَر، إِذا كشف‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏168- 170‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ‏(‏168‏)‏ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏169‏)‏ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ ‏(‏170‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ياأيها الناس كُلُواْ مِمَّا فِي الأرض حلالا طَيِّباً‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ الخطابُ عامٌّ، و«ما» بمعنى «الَّذِي»، «وحَلاَلاً»‏:‏ حال من الضمير العائد على «مَا»، و«طَيِّباً»‏:‏ نعتٌ، ويصح أن يكون حالاً من الضمير في «كُلُواْ»، تقديره‏:‏ مستطيبِينَ، والطَّيِّبُ عند مالك‏:‏ الحلال؛ فهو هنا تأكيدٌ لاختلاف اللفظِ، وهو عند الشافعيِّ‏:‏ المستَلَذُّ، ولذلك يمنع أكل الحيوان القَذِرِ‏.‏

قال الفَخْر‏:‏ الحلالُ هو المباحُ الذي انحلَّتْ عقدة الحَظْر عنه، وأصله من الحَلِّ الذي هو نقيضُ العَقْد‏.‏ انتهى‏.‏

و ‏{‏خطوات‏}‏‏:‏ جمع خطوةٍ، والمعنى‏:‏ النهْيُ عن اتباع الشيطان، وسلوكِ سبله، وطرائقه‏.‏

قال ابن عَبَّاس‏:‏ خطواته‏:‏ أَعماله، وقال غيره‏:‏ آثاره‏.‏

* ع *‏:‏ وكلُّ ما عدا السنَنَ والشرائعَ من البِدَعِ والمعاصِي، فهي خطواتُ الشيطان‏.‏

وعَدُوّ‏:‏ يقع للمفرد والمثنى والجمع‏.‏

‏{‏إِنَّمَا يَأْمُرُكُم بالسوء والفحشآء‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآيةَ‏:‏ «إِنما» ههنا‏:‏ للحصر، وأمر الشيطان‏:‏ إما بقوله في زَمَن الكهنة، وإِما بوَسْوسته‏.‏

و ‏{‏السوء‏}‏‏:‏ مصدرٌ من‏:‏ سَاءَ يَسُوءُ، وهي المعاصِي، وما تسوء عاقبته، ‏{‏والفحشاء‏}‏‏:‏ قيل‏:‏ الزنا، وقيل‏:‏ ما تفاحَشَ ذكره، وأصل الفُحْش‏:‏ قُبْحِ المنظر، ثم استعملت اللفظة فيما يستقبحُ، والشَّرْعُ‏:‏ هو الذي يُحَسِّنُ ويُقَبِّحُ، فكُّل ما نهتْ عنه الشريعةُ، فهو من الفحشاء‏.‏

و ‏{‏مَا لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏‏:‏ قال الطبري‏:‏ يريد‏:‏ ما حرموا من البَحِيرة، والسِّائبة، ونحوها، وجعلوه شرعاً‏.‏

‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ‏}‏، يعني‏:‏ كفَّارَ العرب، وقال ابن عبَّاس‏:‏ نزلَتْ في اليهود، والألفُ في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أَوَلَوْ كَانَ‏}‏‏:‏ للاستفهامِ؛ لأن غاية الفساد في الاِلتزامِ؛ أنْ يقولوا‏:‏ نتبع آباءنا، ولو كانوا لا يعقلون، فقُرِّرُوا على التزامهم هذا؛ إذ هذه حال آبائهم‏.‏

وقوةُ ألفاظ هذه الآية تُعطِي إِبْطَال التقليد، وأجمعتِ الأمَّة على إِبطاله في العقَائدِ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏171- 171‏]‏

‏{‏وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ‏(‏171‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَثَلُ الذين كَفَرُواْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ المرادُ تشبيهُ واعظِ الكافرينَ، وداعِيهِمْ بالراعي الذي يَنْعِقُ بالغَنَمِ أو الإِبل، فلا تسمع إِلا دعاءه، ونداءه، ولا تَفْقَهُ ما يقول؛ هكذا فسر ابن عباس، وعكْرمة، والسُّدِّيُّ، وسيبويه، فذكَرَ تعالى بعْضَ هذه الجملة، وبعضَ هذه، ودَلَّ المذْكُور على المحذوفِ، وهذه نهايةُ الإِيجاز‏.‏

والنَّعِيقُ‏:‏ زجْر الغَنَم، والصِّيَاحُ بها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏172- 173‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ‏(‏172‏)‏ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏173‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ياأيها الذين ءامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رزقناكم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ الطَّيِّب‏:‏ هنا يجمع الحلال المستلَذَّ، والآية تشير بتبعيض «مِنْ»؛ إلى أن الحرام رزْقٌ، وحضّ سبحانه على الشكر، والمعنى‏:‏ في كل حالةٍ، وفي «مصابيح البَغَوِيِّ»؛ عن أبي دَاوُدَ والنَّسائِيِّ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قال‏:‏ ‏"‏ الطَّاعِمُ الشَّاكِرُ كَالصَّائِمِ الصَّابِرِ ‏"‏ انتهى‏.‏

قال القُشَيْرِيُّ‏:‏ قال أهل العلْمِ بالأصول‏:‏ نِعَمُ اللَّهِ تعالى على ضربَيْن‏:‏ نعمةُ نَفْعٍ، ونعمةُ دَفْعٍ، فنعمةُ النفْعِ‏:‏ ما أولاهم، ونعمةُ الدفع‏:‏ ما زوى عنهم، وليس كلُّ إِنعامه سبحانه انتظام أسبابِ الدنيا، والتمكُّنَ منها، بل ألطافُ اللَّه تعالى فيما زوى عنهم من الدُّنْيَا أكثرُ، وإن قرب العبد من الربِّ تعالى على حسب تباعُدِهِ من الدنيا‏.‏ انتهى من «التَّحْبير»‏.‏

وقال أبو عمر بن عبد البَرِّ في كتابه المسمى ب «بهجة المجالس»‏.‏ قال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ على عَبْدٍ بِنِعْمَةٍ، فَعَلِمَ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِلاَّ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ شُكْرَهَا، وَمَا عَلَمَ اللَّهُ مِنْ عَبْدٍ نَدَامَةً على ذَنْبٍ إِلاَّ غَفَرَ لَهُ قَبْلَ أَنْ يَسْتَغْفِرَهُ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَلْبَسُ الثَّوْبَ، فَيَحْمَدُ اللَّهَ، فَمَا يَبْلُغُ رُكْبَتَيْهِ؛ حتى يُغْفَرَ لَهُ ‏"‏ قال أبو عُمَر‏:‏ مكتوبٌ في التوراةِ‏:‏ «اشكر لِمَنْ أَنْعَمَ عَلَيْكَ، وَأَنْعِمْ على مَنْ شَكَرَكَ؛ فَإِنَّهُ لاَ زَوَالَ لِلنِّعَمِ، إِذَا شُكِرَتْ، وَلاَ مُقَامَ لَهَا، إِذَا كُفِرَتْ»‏.‏ انتهى‏.‏

«وإِنْ» من قوله‏:‏ ‏{‏إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ‏}‏‏:‏ شرطٌ، والمراد بهذا الشرط التثبيتُ، وهزُّ النفوس؛ كما تقول‏:‏ افعل كَذَا، إِنْ كنْتَ رجلاً، و«إِنَّمَا» ههنا حاصرة، ولفظ الميتة عمومٌ، والمعنى مخصِّص لأنَّ الحوتَ لم يدخُلْ قطُّ في هذا العموم، وفي مسند البَزَّار عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قَالَ‏:‏ ‏"‏ إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الخَمْرَ وَثَمَنَهَا، وَحَرَّمَ المَيْتَةَ وَثَمَنَهَا، وحَرَّمَ الْخِنْزِيرَ وَثَمَنَهُ ‏"‏ انتهى من «الكوكب الدُّرِّيِّ»؛ للإمام أبي العباس أحمد بن سَعْدٍ التُّجِيبِيِّ‏.‏

‏{‏والدم‏}‏ يراد به المسفوحُ؛ لأن ما خالط اللحْمَ، فغير محرَّم بإِجماع‏.‏

* ت *‏:‏ بل فيه خلافٌ شاذٌّ، ذكره ابن الحاجبِ وغيره، والمشهورُ‏:‏ أظهر؛ لقول عائشةَ رضي اللَّه عنها‏:‏ «لَوْ حُرِّمَ غَيْرُ المَسْفُوحِ، لَتَتَبَّعَ النَّاسُ مَا فِي العُرُوقِ، وَلَقَدْ كُنَّا نَطْبُخُ اللَّحْمَ، وَالبُرْمَةُ تَعْلُوهَا الصُّفْرَةُ»‏.‏ انتهى‏.‏

‏{‏وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله‏}‏‏.‏

قال ابن عبَّاس وغيره‏:‏ المراد ما ذُبِحَ للأنْصَاب والأوثان، و‏{‏أُهِلَّ بِهِ‏}‏‏:‏ معناه صِيحِ به؛ ومنه‏:‏ استهلالُ المولودِ، وجرَتْ عادة العرب بالصياحِ باسم المقصودِ بالذبيحةِ، وغلب ذلك في استعمالهم؛ حتى عبر به عن النيَّة التي هي علَّة التحريم‏.‏

‏{‏فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ‏}‏ قال قتادة وغيره‏:‏ معناه غيْرَ قاصدِ فسادٍ وتعدٍّ؛ بأن يجدَ عن هذه المحرَّمات مندوحةً، ويأكلها، وأصحاب هذا القول يجيزونَ الأكل منها في كلِّ سفر، مع الضرورة، وقال مجاهد وغيره‏:‏ المعنى‏:‏ غير باغٍ على المسلمين، وعَادٍ عليهم، فيدخل في الباغِي والعادِي قُطَّاعُ السبل، والخارجُ على السلطانِ، والمسافر في قَطْع الرحمِ، والغَارَةُ على المسلمين، وما شاكله، ولغير هؤلاء‏:‏ هي الرخصةُ‏.‏

قال مالك رحمه اللَّه‏:‏ يأكل المضطَرُّ شِبَعَهُ، وفي «الموطَّإ» وهو لكثير من العلماءِ أنه يتزوَّد، إِذا خشي الضرورة فيما بين يديه من مفازةٍ وقَفْرٍ‏.‏

قال ابنُ العربيِّ في «أحكامه»، وقد قال العلماء‏:‏ إِنَّ من اضطرَّ إلى أكل الميتةِ، والدمِ، ولحمِ الخنزيرِ، فلم يأكلْ، دخل النَّار إِلا أنْ يَغْفِرَ اللَّه له‏.‏ انتهى‏.‏ والمعنى‏:‏ أنه لم يأكلْ حتى مات جوعاً، فهو عاصٍ، وكأنه قتل نفسه، وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 29‏]‏ الآية إِلى قوله‏:‏ ‏{‏وَمَن يَفْعَلْ ذلك عدوانا وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 30‏]‏ قال ابن العربيِّ‏:‏ وإذا دامتِ المَخْمَصة، فلا خلاف في جواز شبع المضطَرِّ، وإن كانت نادرةً، ففي شبعه قوْلانِ‏:‏ أحدهما لمالك‏:‏ يأكل؛ حتى يَشْبَعَ، ويتضلَّع، وقال غيره‏:‏ يأكل بمقدارِ سدِّ الرَّمقِ، وبه قال ابن حَبِيبٍ، وابن المَاجِشُونِ‏.‏ انتهى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏174- 176‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏174‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ‏(‏175‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ‏(‏176‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ الله مِنَ الكتاب‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏

قال ابن عَبَّاس وغيره‏:‏ المراد أحبار اليهود الذين كتموا أمْر محمَّد صلى الله عليه وسلم، و‏{‏الكتاب‏}‏‏:‏ التوراة والإِنجيل‏.‏

* ع *‏:‏ وهذه الآية وإِن كانَتْ نزلَتْ في الأحبار، فإِنها تتناوَلُ من علماء المسلمين مَنْ كتم الحقَّ مختاراً لذلك بسبب دُنْيَا يصيبُهَا، وفي ذكر البَطْنِ تنبيهٌ على مذمَّتهم؛ بأنهم باعوا آخرتهم بحظِّهم من المطعم الذي لا خَطَرَ له، وعلى هُجْنَتِهمْ بطاعة بُطُونهم، قال الرَّبِيع وغيره‏:‏ سمى مأكولهم ناراً؛ لأنه يؤول بهم إِلى النار، وقيل‏:‏ يأكلون النار في جَهَنَّمَ حقيقةً‏.‏

* ت *‏:‏ وينبغي لأهل العلْمِ التنزُّه عن أخْذ شيء من المتعلِّمين على تعليم العلْم، بل يلتمسُونَ الأجر من اللَّه عزَّ وجلَّ، وقد قال تعالى لنبيِّه- عليه السلام-‏:‏ ‏{‏قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 90‏]‏ الآية، وفي سنن أبي دَاوُدَ، عن عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، قال‏:‏ ‏"‏ عَلَّمْتُ نَاساً مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ الكِتَابَ، وَالقُرْآنَ، وأهدى إِلَيَّ رَجُلٌ مِنْهُمْ قَوْساً، فَقُلْتُ‏:‏ لَيْسَتْ بِمَالٍ، وَأَرْمِي عَلَيْهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، لآتِيَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَلأسْأَلَنَّهُ، فَأَتَيْتُهُ، فَقُلْتُ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، رَجُلٌ أهدى إِلَيَّ قَوْساً مِمَّنْ كُنْتُ أُعَلِّمُهُ الكِتَابَ وَالقُرْآنَ، وَلَيْسَتْ بِمَالٍ، وَأَرْمِي عَلَيْهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَالَ‏:‏ إِنْ كُنْتَ تُحِبُّ أَنْ تُطَوَّقَ طَوْقاً مِنْ نَارٍ، فاقبلها ‏"‏، وَفِي روايةٍ‏:‏ ‏"‏ فَقُلْتُ مَا ترى فِيهَا، يَا رَسُولَ اللَّهُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ جَمْرَةٌ بَيْنَ كَتِفَيْكَ تَقَلَّدْتَهَا أَوْ تَعَلَّقْتَهَا ‏"‏ انتهى‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ الله‏}‏‏:‏ قيل‏:‏ هي عبارةٌ عن الغضب عليهم، وإِزالة الرضَا عنهم؛ إِذ في غير موضعٍ من القُرآن ما ظاهره أن اللَّه تعالى يكلِّم الكافرين، وقال الطبريُّ وغيره‏:‏ المعنى‏:‏ لا يكلِّمهم بما يحبُّونَهُ‏.‏

‏{‏وَلاَ يُزَكِّيهِمْ‏}‏، أي‏:‏ لا يطهِّرهم من موجباتِ العذابِ، وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ لا يسمِّيهم أزكياء‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النار‏}‏‏:‏ قال جمهور المفسِّرين‏:‏ «ما» تعجُّب، وهو في حيِّز المخاطبين، أي‏:‏ هم أهلٌ أن تَعْجَبُوا منْهم، وممَّا يطول مُكْثُهم في النَّار، وفي التنزيل‏:‏ ‏{‏قُتِلَ الإنسان مَآ أَكْفَرَهُ‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 17‏]‏ و‏{‏أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 38‏]‏‏.‏

وقال قتادة، والحَسَنُ، وابْنُ جُبَيْر، والربيع‏:‏ أظهر التعجُّب من صبرهم على النار لَمَّا عملوا عملَ مَنْ وَطَّن نفْسه علَيْها، وتقديره ما أجرأَهم علَى النَّارِ؛ إِذ يعملون عملاً يؤدِّي إِليها، وذهب مَعْمَرُ بْنُ المثنى؛ إِلى أن «ما» استفهامٌ، معناه‏:‏ أيُّ شَيْءٍ صبرهم عَلَى النار، والأول أظهر‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏ذلك بِأَنَّ الله نَزَّلَ الكتاب بالحق‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ المعنى‏:‏ ذلك الأمر بأنَّ اللَّه نزَّل الكتابَ بالحَقِّ، فكفروا به، والإِشارة إِلى وجوب النَّار لهم‏.‏

و ‏{‏الكتاب‏}‏‏:‏ القُرْآن، و‏{‏بالحق‏}‏، أي‏:‏ بالإِخبار الحقِّ، أي‏:‏ الصادقة‏.‏

و ‏{‏الذين اختلفوا فِى الكتاب‏}‏ هم اليهودُ والنصارى، في قول السُّدِّيِّ، وقيل‏:‏ هم كفَّار العرب؛ لقول بعضهم‏:‏ هو سِحْرٌ، وبعضهم‏:‏ أساطير، وبَعْضهم‏:‏ مفترًى، إِلى غير ذلك‏.‏

و ‏{‏بَعِيدٍ‏}‏، هنا‏:‏ معناه من الحقِّ، والاستقامة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏177- 177‏]‏

‏{‏لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ‏(‏177‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَّيْسَ البر أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المشرق والمغرب‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ قال ابن عَبَّاس وغيره‏:‏ الخِطَابُ بهذه الآية للمؤمنين، فالمعنى‏:‏ ليس البرُّ الصلاةَ وحْدها، وقال قتادة، والربيع‏:‏ الخطاب لليهودِ والنصارى؛ لأنهم تكلَّموا في تحويل القبلة، وفضَّلت كل فرقة تولِّيها، فقيلَ لهم‏:‏ ليس البرَّ ما أنتم فيه، ولكنَّ البرَّ من آمن باللَّه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَآتَى المال على حُبِّهِ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآيةَ‏:‏ هذه كلُّها حقوقٌ في المال سوى الزكاةِ، قال الفَخْر‏:‏ وروَتْ فاطمةُ بنْتُ قَيْسٍ، أنَّ فِي المَالِ حَقًّا سِوَى الزَّكَاةِ، وتَلاَ‏:‏ ‏{‏وَآتَى المال على حُبِّهِ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏، وعنه صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ مَنْ بَاتَ شَبْعَانَ، وَجَارُهُ طَاوِياً إلى جَنْبِهِ ‏"‏ انتهى‏.‏

قال ابن العربيِّ في «أحكامه»‏:‏ وإِذا وقع أداء الزكاة، ثم نزلَتْ بعد ذلك حاجةٌ، فإِنه يجبُ صرف المال إِليها باتفاق من العلماءِ، وقد قال مالك‏:‏ يجبُ على كافَّة المسلمين فِدَاءُ أسراهم، وإن استغرق ذلك أموالَهُمْ، وكذلك إِذا منع الوالي الزكاةَ، فهل يجبُ على الأغنياء إِغناءُ الفقراء‏؟‏ الصحيحُ‏:‏ وجوبُ ذلك علَيْهم‏.‏ انتهى‏.‏

ومعنى‏:‏ ‏{‏أتى‏}‏‏:‏ أعطى على حبِّه، أي‏:‏ على حبِّ المال، ويحتملُ أن يعود الضميرُ على اسْمِ اللَّه تعالى من قوله‏:‏ ‏{‏مَنْ آمَنَ بالله‏}‏، أي‏:‏ من تَصَدَّقَ مَحَبَّة في اللَّه وطاعته‏.‏

* ص *‏:‏ والظاهر أن الضمير في «حُبِّهِ» عائدٌ على «المال»؛ لأن قاعدتهم أن الضمير لا يعود على غير الأقرب إِلاَّ بدليلٍ‏.‏ انتهى‏.‏ قال‏:‏

* ع *‏:‏ والمعنَى المقصودُ أن يتصدَّق المرءُ في هذه الوجوهِ، وهو صحيحٌ شحيحٌ يخشَى الفَقْر، ويأمل الغنى؛ كما قال صلى الله عليه وسلم‏.‏ والشحُّ؛ في هذا الحديث‏:‏ هو الغريزيُّ الذي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأُحْضِرَتِ الأنفس الشح‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 128‏]‏ وليس المعنَى أنْ يكون المتصدِّق متَّصِفاً بالشحِّ الذي هو البُخْل‏.‏

‏{‏وَفِي الرقاب‏}‏، أي‏:‏ العتق، وفَكّ الأسرى‏.‏

‏{‏والصابرين‏}‏‏:‏ نصبٌ على المدح، أو على إِضمار فعْلٍ، وهذا مَهْيَعٌ في تكرار النعوتِ‏.‏

و ‏{‏البأسآء‏}‏‏:‏ الفَقْر والفاقة‏.‏

‏{‏والضراء‏}‏‏:‏ المرض، ومصائبُ البدن، وعن ابن عبَّاس رضي اللَّه عنهما، قال‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ أَوَّلُ مَنْ يدعى إِلَى الجَنَّةِ الَّذِينَ يَحْمَدُونَ اللَّهَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ ‏"‏ رواه الحاكم في «المستَدْرَكِ»، وقال‏:‏ صحيحٌ على شرط مُسْلِمٍ‏.‏ انتهى من «السلاح»‏.‏

وفي صحيح مُسْلِمٍ، عن صُهَيْب، قال‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ عَجَباً لأَمْرِ المُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لأِحَدٍ إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِ، إِذَا أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ فَشَكَرَ، فَكَانَ خَيْراً لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ، فَكَانَ خَيْراً لَهُ ‏"‏ انتهى‏.‏

‏{‏وَحِينَ البأس‏}‏، أي‏:‏ وقْتَ شدَّة القتال، هذا قولُ المفسِّرين في الألفاظ الثلاثة، تقولُ العربُ‏:‏ بَئِسَ الرَّجُلُ إِذَا افتقر، وبَؤُسَ إِذا شَجُع، ثم وصف تعالى أهل هذه الأفعال البَرَّة بالصدْقِ في أمورهم، أي‏:‏ هم عند الظنِّ بهم والرجاء فيهم؛ كما تقول‏:‏ صَدَقَنِي المَالُ، وصَدَقَنِي الرُّمْحُ، ووصفهم تعالى بالتقى، والمعنى‏:‏ هم الذين جَعَلُوا بينهم وبين عذاب اللَّه وقايةً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏178- 179‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏178‏)‏ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ‏(‏179‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ياأيها الذين ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآيةَ‏:‏ ‏{‏كُتِبَ‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ فُرِضَ، وأُثْبِتَ، وصورةُ فَرْضِ القصاصِ، هو أنَّ القاتل فُرِضَ عليه، إِذا أراد الوليُّ القتل، الاِستسلامُ لأمر اللَّه، وأن الوليَّ فرض عليه الوقوفُ عند قتل وليِّه، وترك التعدِّي على غيره، فإِن وقع الرضَا بدون القصاص من دية أو عفو، فذلك مباحٌ، والآية معلِّمة أن القِصَاصَ هو الغايةُ عند التَّشَاحِّ، و‏{‏القصاص‏}‏‏:‏ مأخوذ من‏:‏ قَصِّ الأثر؛ فكأن القاتل سلك طريقاً من القتل، فقص أثره فيها‏.‏

روي عن ابن عَبَّاس؛ أنَّ هذه الآية مُحْكَمة، وفيها إِجمال فسَّرته آية «المائدة»، وأن قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏الحر بِالْحُرِّ‏}‏ يعمُّ الرجال والنساء، وأجمعتِ الأمة على قتل الرجُلِ بالمرأةِ، والمرأة بالرجل‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآيةَ‏:‏ فيه تأويلاتٌ‏:‏

أحدها‏:‏ أنَّ «مَنْ» يرادُ بها القاتلُ، و«عُفِيَ»‏:‏ تتضمن عافياً، وهو وليُّ الدم، والأخُ‏:‏ هو المقتولُ، و«شَيْءٌ»‏:‏ هو الدمُ الذي يعفى عنه، ويرجع إلى أخذ الدية، هذا قول ابْنِ عَبَّاس، وجماعة من العلماء، والعَفْوُ على هذا القولِ على بابه‏.‏

والتأويلُ الثَّاني‏:‏ وهو قول مالكٍ؛ أنَّ «مَنْ» يراد بها الوليُّ، وعُفِيَ‏:‏ بمعنى‏:‏ يُسِّرَ، لا على بابها في العَفْو، والأخُ‏:‏ يراد به القاتل، و«شَيْءٌ»‏:‏ هي الديةُ، والأخوَّة على هذا أخوَّة الإِسلام‏.‏

والتأويل الثالثُ‏:‏ أنَّ هذه الألفاظ في معنى‏:‏ الَّذين نزلَتْ فيهم الآيةُ، وهم قومٌ تقاتَلُوا، فقتل بعضُهم بعضاً، فأُمِرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يصلحَ بينهم، ويُقَاصَّهم بعضَهم من بعض بالدِّيَات على استواء الأحرار بالأحرار، والنساء بالنساء، والعبيد بالعبيد، فمعنى الآية‏:‏ فمن فضِل له من إِحدى الطائفتين على الأخرى شيْءٌ من تلك الدِّيَاتِ، وتكون‏:‏ «عُفِيَ» بمعنى فَضِلَ‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاتباع‏}‏‏:‏ تقديره‏:‏ فالواجبُ والحُكْمُ‏:‏ اتباع، وهذا سبيلُ الواجباتِ؛ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 229‏]‏ وأما المندوبُ إِلَيْه، فيأتي منصوباً؛ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَضَرْبَ الرقاب‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 4‏]‏، وهذه الآية حضٌّ من اللَّه تعالى على حسن الاقتضاءِ من الطالِبِ، وحُسْنِ القضاء من المُؤَدِّي‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏ذلك تَخْفِيفٌ‏}‏ إِشارة إِلى ما شرعه لهذه الأمة، من أخذ الدية، وكانت بنو إِسرائيل لا ديَةَ عندهم، إِنما هو القِصَاصُ فَقَطْ، والاعتداء المتوعَّد عليه في هذه الآية، هو أنْ يأخذ الرجُلُ ديةَ وليِّه، ثم يقتل القاتل بعد سقوط الدم‏.‏

واختلف في العذابِ الأليم الَّذي يلحقه، فقال فريقٌ من العلماء، منهم مالك‏:‏ هو كَمَنْ قتل ابتداءً، إِن شاء الوليُّ قتله، وإِن شاء، عفا عنه، وعذابه في الآخرة، وقال قتادة وغيره‏:‏ يقتل البتَّةَ، ولا عَفْوَ فيه، ورُوِيَ في ذلك حديثٌ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَكُمْ فِي القصاص حياة‏}‏‏:‏ المعنى‏:‏ أن القصاص إِذا أقيم، وتحقَّق الحكْمُ به، ازدجر مَنْ يريد قتْلَ أحدٍ مخافَةَ أن يقتصَّ منه، فَحَيِيَا بذلك معاً، وأيضاً‏:‏ فكانت العربُ إِذا قتل الرجلُ الآخَر، حمي قبيلاَهُما، وتقاتلوا، وكان ذلك داعياً إلى موت العددِ الكثيرِ، فلمَّا شرَعَ اللَّه سبحانه القِصَاص، قنع الكلُّ به، ووقَف عنده، وتركوا الاقتِتال، فلهم في ذلك حياةٌ، وخُصَّ أولو الألباب بالذِّكْر، تنبيهاً عليهم؛ لأنهم العارفون القابلُون للأوامر والنواهِي، وغيرُهم تَبَعٌ لهم‏.‏

و ‏{‏تَتَّقُونَ‏}‏ معناه‏:‏ القتل، فتسلمون من القصاص، ثم يكون ذلك داعيةً لأنواع التقوى في غير ذلك، فإن اللَّه سبحانه يثيبُ على الطاعة بالطاعة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏180- 182‏]‏

‏{‏كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ‏(‏180‏)‏ فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏181‏)‏ فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏182‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ ‏{‏كُتِبَ‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ فُرِضَ وأُثْبِتَ، وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذَا حَضَرَ‏}‏ مجازٌ؛ لأن المعنى‏:‏ إِذا تخوَّف وحضرتْ علاماتُهُ‏.‏

والخير في هذه الآية‏:‏ المالُ، واختُلِفَ في هذه الآية، هل هي مُحْكَمَةٌ، أو منسوخةٌ، فقال ابنُ عبَّاس، وقتادةُ، والحَسَن‏:‏ الآيةُ عامَّة، وتقرَّر الحكم بها برهةً، ونسخ منها كلّ من يرث بآية الفرائض، وقال بعضُ العلماء‏:‏ إِن الناسخ لهذه الآية هي السُّنَّة المتواترةُ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إِنَّ اللَّهَ قَدْ أعطى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ؛ فَلاَ وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ ‏"‏‏.‏ و‏{‏بالمعروف‏}‏‏:‏ معناه بالقصد الَّذي تعرفه النفوسُ دون إِضرار بالورثة، ولا تَنْزِير للوصية و‏{‏حَقّاً‏}‏‏:‏ مصدر مؤكِّد، وخُصَّ «المتقون» بالذكر؛ تشريفاً للرتبة؛ ليتبادر النَّاس إِليها‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ الضمير في «بَدَّلَهُ» عائدٌ على الإيصاء، وأمر الميت، وكذلك في «سَمِعَهُ»، ويحتمل أن يعود الذي في «سَمِعَهُ» على أمر اللَّه تعالى في هذه الآية، والأول أسبق للناظر، و‏{‏سَمِيعٌ عَلِيمٌ‏}‏‏:‏ صفتان لا يخفى معهما شيْءٌ من جَنَفِ الموصِينَ، وتبديلِ المتعدينَ، والجَنَفُ‏:‏ الميل‏.‏

ومعنى الآية على ما قال مجاهد‏:‏ من خشي أن يحيف الموصِي، ويقطع ميراث طائفة، ويتعمَّد الإِذاءة، فذلك هو الجَنَفُ في إِثم، وإِن لم يتعمَّد، فهو الجنف، دون إِثم، فالمعنى‏:‏ مَنْ وعظه في ذلك وردَّه عنه، وأصلح ما بينه وبين ورثَتِهِ، وما بين الورثة في ذاتهم، فلا إِثم عليه؛ ‏{‏إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ بالموصِي، إِذا عملت فيه الموعظة، ورجع عما أراد من الإذاءة‏.‏

وقال ابن عبَّاس وغيره‏:‏ معنى الآية‏:‏ ‏{‏مَنْ خَافَ‏}‏، أي‏:‏ علِم، ورأى بعد موت الموصِي؛ أن الموصِيَ حَافَ، وجَنَف، وتعمَّد إذاءة بعض ورثته، ‏{‏فَأَصْلَحَ‏}‏ ما بين الورثة، ‏{‏فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ‏}‏، وإِن كان في فعله تبديلٌ مَّا؛ لأنه تبديلٌ لمصلحة، والتبديلُ الذي فيه الإِثم إِنما هو تبديلُ الهوى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏183- 184‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ‏(‏183‏)‏ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏184‏)‏‏}‏

قوله جلَّت قدرته‏:‏ ‏{‏ياأيها الذين ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ ‏{‏كُتِبَ‏}‏‏:‏ معناه فُرِضَ، والصيام؛ في اللغة‏:‏ الإِمساك، ومنه قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنِّي نَذَرْتُ للرحمن صَوْماً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 26‏]‏ وفي الشرع‏:‏ إِمساكٌ عن الطعام والشراب مقترنةٌ به قرائنُ؛ مِنْ مُراعاة أوقاتٍ، وغير ذلك‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَمَا كُتِبَ عَلَى الذين مِن قَبْلِكُمْ‏}‏‏:‏ اختلف في موضع التشبيه‏:‏ قالتْ فرقة‏:‏ التشبيهُ‏:‏ كُتِبَ عليكم كصيامٍ قد تقدَّم في شرع غيركم، ف «الَّذِينَ» عامٌّ في النصارى وغيرهم‏.‏

و ‏{‏لَعَلَّكُمْ‏}‏‏:‏ ترجٍّ في حقهم‏.‏

و ‏{‏تَتَّقُونَ‏}‏‏:‏ قيل على العموم؛ ‏"‏ لأن الصيام؛ كما قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «جُنَّةٌ ووِجَاءٌ، وسببُ تقوى؛ لأنه يميتُ الشهوات» ‏"‏‏.‏ و‏{‏أَيَّامًا معدودات‏}‏‏:‏ قيل‏:‏ رمضان، وقيل‏:‏ الثلاثةُ الأيام من كل شهرٍ، ويومُ عاشوراءَ الَّتي نُسخَتْ بشهر رمضان‏.‏

* ص *‏:‏ و‏{‏أَيَّامًا‏}‏‏:‏ منصوبٌ بفعل مقدَّر يدلُّ عليه ما قبله، أي‏:‏ صوموا أياماً، وقيل‏:‏ ‏{‏أَيَّامًا‏}‏‏:‏ نصب على الظرف انتهى‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ على سَفَرٍ‏}‏‏:‏ التقدير‏:‏ فأفْطَرَ، ‏{‏فَعِدَّةٌ‏}‏، وهذا يسمونه فَحْوَى الخطابِ، واختلف العلماءُ في حَدِّ المرض الذي يقع به الفطْر، فقال جمهور العلماء‏:‏ إِذا كان به مرضٌ يؤذيه، ويؤلمه أو يخاف تَمادِيَهُ، أو يخافُ من الصوم تزيُّده، صحَّ له الفطْرُ، وهذا مذْهَبُ حُذَّاقِ أصحاب مالكٍ، وبه يناظرونَ، وأما لفظ مالكٍ‏.‏ فهو المرضُ الَّذي يَشُقُّ على المرء، ويبلغ به، واختلف في الأفضل من الفِطْرِ أو الصَّوْمِ، ومذهبُ مالكٍ استحباب الصومِ لمن قَدَرَ علَيْه، وتقصيرُ الصَّلاة حَسَنٌ؛ لأن الذمَّة تبرأ في رخصة الصلاة، وهي مشغولةٌ في أمر الصيام، والصوابُ‏:‏ المبادرةُ بالأعمال‏.‏

والسَّفَرُ‏:‏ سفَرُ الطاعةِ؛ كالحجِّ، والجهادِ؛ بإجماع، ويتصلُ بهذَيْن سفَرُ صلَةِ الرَّحِمِ، وطلبِ المعاشِ الضروريِّ‏.‏

وأما سفر التجارة، والمباحاتِ، فمختلَفٌ فيه بالمنع، والجواز، والقولُ بالجواز أرجحُ‏.‏

وأما سفر العصْيَان، فمختلف فيه بالجوازِ، والمنعِ، والقولُ بالمنع أرجحُ‏.‏

ومسافةُ سفر الفطر؛ عند مالك، حيث تقصر الصلاة ثمانيةٌ وأربعون ميلاً‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَعِدَّةٌ‏}‏، أي‏:‏ فالحكم أو الواجب عِدَّةٌ، وفي وجوبِ تتابعها قولانِ، و‏{‏أُخَرَ‏}‏ لا ينصرف للعَدْلِ‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ قرأ باقي السبعة غيْرَ نافعٍ وابنِ عامر‏:‏ «فِدْيَةٌ»؛ بالتنوين «طَعَامُ مِسْكِينٍ»؛ بالإِفراد، وهي قراءة حَسَنةٌ؛ لأنها بيَّنت الحكم في اليوم‏.‏

واختلفوا في المراد بالآية، فقال ابن عُمَر وجماعةٌ‏:‏ كان فرضُ الصيامِ هكذا على الناس؛ مَنْ أراد أن يصوم، صام، ومن أراد أن يفطر أطعم مسكيناً، وأفطر، ثم نسخ ذلك بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 185‏]‏‏.‏ وقالتْ فرقةٌ‏:‏ في الشيوخ الذين يطيقونه بتكلُّف شديدٍ، والآيةُ عند مالك‏:‏ إِنما هي فيمَنْ يدركه رمضانٌ ثانٍ، وعليه صومٌ من المتقدِّم، فقد كان يطيق في تلك المدة الصوْمَ، فتركه، والفديةُ عند مالك وجماعةٍ من العلماء‏:‏ مُدٌّ لكلِّ مسكين‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّه‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ قال ابنُ عَبَّاس وغيره‏:‏ المراد مَنْ أطعم مسكينَيْنِ فصاعدًا، وقال ابن شِهَابٍ‏:‏ من زاد الإِطعام مع الصوم، وقال مجاهدٌ‏:‏ مَنْ زاد في الإِطعام على المُدِّ، و‏{‏خَيْرًا‏}‏ الأول قد نُزِّل منزلة مالٍ، أو نفعٍ، و‏{‏خَيْرٌ‏}‏ الثاني والثالثُ صفةُ تفضيلٍ‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ يقتضي الحضَّ على الصوْمِ، أي‏:‏ فاعلموا ذلك وصوموا‏.‏

* ت *‏:‏ وجاء في فضل الصومِ أحاديثُ صحيحةٌ مشهورةٌ، وحدث أبو بكر بْنُ الخَطِيبُ بسنده عن سهل بن سعد الساعديِّ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ ‏"‏ مَنْ صَامَ يَوْماً تَطوُّعاً، لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ أَحَدٌ، لَمْ يَرْضَ اللَّهُ لَهُ بِثَوَابٍ دُونَ الجَنَّةِ ‏"‏، قال‏:‏ وبهذا الإِسناد عن أبي هريرة عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم بمثله‏.‏ انتهى‏.‏

قال ابن عبد البَرِّ في كتابه المسمى ب «بهجة المَجالِسِ» قال أبو العالية‏:‏ الصائمُ في عبادةٍ ما لم يغتَبْ‏.‏

قال الشيخُ الصالحُ أبو عبد اللَّه محمَّد البلاليُّ الشافعيُّ في «اختصاره للإحياء»‏:‏ وذكر السُّبْكِيُّ في شرحه؛ أن الغِيبَةَ تمنع ثوابَ الصوْمِ إِجماعاً، قال البلاليُّ‏:‏ وفيه نظر؛ لمشقَّة الاحتراز، نعم، إِن أكثر، توجَّهت المقالة‏.‏ انتهى، وهذا الشيخ البلاليُّ لقيتُهُ، ورويتُ عنه كتابه هَذَا‏.‏

وصحَّ عنه صلى الله عليه وسلم؛ أنَّهُ قَالَ‏:‏ ‏"‏ إِذَا دَخَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ، فُتِحَتْ أَبْوَابُ الجَنَّةِ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ ‏"‏ قال أبو عمر في «التمهيد»‏:‏ وذلك لأن الصوْمَ جُنَّةٌ يستجنُّ بها العَبْدُ من النار، وتُفْتَحُ لهم أبوابُ الجنة؛ لأن أعمالهم تزكُو فيه، وتُقْبَل منهم، ثم أسند أبو عمر عن أبي هريرة، قال‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ أُعْطِيَتْ أُمَّتِي خَمْسَ خِصَالٍ فِي رَمَضَانَ، لَمْ تُعْطَهُنَّ أُمَّةٌ قَبْلَهَا‏:‏ خُلُوفُ فَمِ الصَّائِم أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ، وَتَسْتَغْفِرُ لَهُمُ المَلاَئِكَةُ حتى يُفْطِرُوا، وَيُزَيِّنُ اللَّهُ لَهُمْ كُلَّ يَوْمٍ جَنَّتَهُ، ثُمَّ يَقُولُ‏:‏ يُوشِكُ عِبَادِي الصَّائِمُونَ أَنْ يُلْقُوا عَنْهُمْ المَئُونَةَ، والأذى، ثُمَّ يَصِيرُونَ إِلَيْكِ، وَتُصَفَّدُ فِيهِ مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ، فَلاَ يَخْلُصُونَ إلى مَا كَانُوا يَخْلُصُونَ إِلَيْهِ فِي غَيْرِهِ، ويَغْفِرُ لَهُمْ آخِرَ لَيْلَةٍ، قيلَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَهِيَ لَيْلَةُ القَدْرِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ لاَ، ولَكِنَّ العَامِلَ إِنَّمَا يوفى أَجْرَهُ إِذَا انقضى ‏"‏، قال أبو عمر‏:‏ وفي سنده أبو المِقْدام، فيه ضعف، ولكنَّه محتملٌ فيما يرويه من الفضائل‏.‏

وأسند أبو عمر عن الزهْريّ، قال‏:‏ ‏"‏ تسبيحةٌ في رمَضَان أفضلُ من ألفِ تسبيحةٍ في غيره ‏"‏ انتهى‏.‏

* ت *‏:‏ وخرَّجه الترمذيُّ عن الزهري قال‏:‏ ‏"‏ تَسْبِيحَةٌ فِي رَمَضَانَ أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ تسبيحةٍ في غيره ‏"‏ انتهى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏185- 185‏]‏

‏{‏شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏185‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏شَهْرُ رَمَضَانَ الذى أُنزِلَ فِيهِ القرآن‏}‏‏:‏ الشَّهْرُ‏:‏ مشتقٌّ من الاشتهار‏.‏

قال‏:‏ * ص *‏:‏ الشهر مصْدَرُ‏:‏ شَهَر يَشْهر، إِذا ظهر، وهو اسم للمدَّة الزمانيَّة، وقال الزجَّاج‏:‏ الشَّهْر‏:‏ الهلالُ، وقيل‏:‏ سمِّي الشهْرُ باسمِ الهلالِ‏.‏ انتهى‏.‏

ورَمَضَانُ‏:‏ عَلِقَهُ هذا الاسمُ من مُدَّة كان فيها في الرَّمَضِ، وشدَّة الحَرِّ، وكان اسمه قبل ذلك نَاثراً‏.‏

واختلف في إنزال القرآن فيه، فقال الضَّحَّاك‏:‏ أنزل في فَرْضِهِ، وتعظيمِهِ، والحضِّ عليه، وقيل‏:‏ بدئ بنُزُوله فيه علَى النبيِّ صلى الله عليه وسلم وقال ابنُ عبَّاس فيما يؤثر‏:‏ أنزل إِلى السماء الدنيا جملةً واحدةً ليلةَ أربعٍ وعشرينَ من رمَضَان، ثم كان جبريلُ ينزله رِسْلاً رِسْلاً في الأوامر، والنواهي، والأسباب، وروى وَاثِلَةٌ بن الأَسْقَعِ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أنَّهُ قَالَ‏:‏ ‏"‏ نَزَلَتْ صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ أَوَّلَ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَالتَّوْرَاةُ لِسِتٍّ مَضَيْنَ مِنْهُ، وَالإِنْجيلُ لِثَلاَثَ عَشْرَةَ، وَالْقُرْآنُ لأَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ ‏"‏ و‏{‏هُدًى‏}‏ في موضع نصبٍ على الحال من القُرآن، فالمراد أن القرآن بجملته مِنْ مُحْكَمٍ ومتشابِهٍ وناسخٍ ومنسوخٍ- هُدًى ثم شُرِّفَ، بالذِّكْر، والتخصيصِ البيناتُ منه، يعني‏:‏ الحلالَ والحرامَ والمواعظَ والمُحْكَمَ كلّه، فالألفُ واللامُ في الهدى للعهْدِ، والمراد الأول‏.‏

قال‏:‏ * ص *‏:‏ ‏{‏هُدًى‏}‏‏:‏ منصوبٌ على الحال، أي‏:‏ هادياً، فهو مصدرٌ وضع موضعَ اسم الفاعلِ، وذو الحال القُرآن، والعاملُ «أنزل»‏.‏ انتهى‏.‏

و ‏{‏الفرقان‏}‏‏:‏ المُفَرِّق بين الحق والباطل، و‏{‏شَهِدَ‏}‏‏:‏ بمعنى حَضَر، والتقدير‏:‏ مَنْ حضر المِصْرَ في الشَّهْر، فالشهر نصْبٌ على الظرف‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر‏}‏‏.‏

قال مجاهد، والضَّحَّاك‏:‏ اليُسْر‏:‏ الفِطْر في السفر، والعسر‏:‏ الصوم في السفر‏.‏

* ع *‏:‏ والوجْهُ عمومُ اللفظِ في جميع أمورِ الدينِ، وقد فسر ذلك قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ دِينُ اللَّهِ يُسْرٌ ‏"‏‏.‏ قلتُ‏:‏ قال ابْنُ الفاكهانيِّ في «شرح الأربعينَ» للنَّوويِّ‏:‏ فإِن قلْتَ‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ مَعَ العسر يُسْراً‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏الشرح‏:‏ 6‏]‏ الآيةَ، يدلُّ على وقوع العُسْر قطعاً، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر‏}‏ يدلُّ على نفي العسرِ قطعاً؛ لأن ما لا يريده تعالى، لا يكون بإجماع أهل السنة، قلْتُ‏:‏ العسرُ المنفيُّ غير المثبت، فالمنفيُّ‏:‏ إنما هو العسر في الأحكام، لا غير، فلا تعارض‏.‏ انتهى‏.‏

وترجم البخاريُّ في «صحيحه» قولَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ يَسِّرُوا وَلاَ تُعَسِّرُوا ‏"‏، وَكَانَ يُحِبُّ التَّخْفِيفَ وَاليُسْرَ عَلَى النَّاسِ‏.‏ ثم أسند هو ومسلمٌ عن أنس، قال‏:‏ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ يَسِّرُوا وَلاَ تُعَسِّرُوا، وَسَكِّنُوا وَلاَ تْنَفِّرُوا ‏"‏ وأسند البخاريُّ ومسلم عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال لأبِي موسى، ومعاذٍ‏:‏ ‏"‏ يَسِّرَا وَلاَ تُعَسِّرَا، وَبَشِّرَا وَلاَ تُنَفِّرَا ‏"‏

قال البخاريُّ‏:‏ حدَّثنا أبو النعمان، قال‏:‏ حدَّثنا حمَّاد بْنُ زَيْدٍ، عن الأزرقِ بْن قَيْسٍ‏.‏ قال‏:‏ «كُنَّا على شَاطِئ نَهْرٍ بِالأَهْوَاز قَدْ نَضَبَ عَنْهُ المَاءُ، فَجَاءَ أَبُو بَرْزَةَ الأَسْلَمِيُّ على فَرَسٍ، فصلى وخلى فَرَسَهُ، فانطلق الفَرَسُ فَتَرَكَ صَلاَتَهُ، وَتَبِعَهَا؛ حتى أَدْرَكَهَا، فَأَخَذَهَا، ثُمَّ جَاءَ، فقضى صَلاَتَهُ، وفِينَا رَجُلٌ لَهُ رَأْيٌ، فَأَقْبَلَ يَقُولُ‏:‏ انظروا إِلَى هَذَا الشَّيْخِ، تَرَكَ صَلاَتَهُ مِنْ أَجْلِ فَرَسٍ، فَأَقْبَلَ، فَقَالَ‏:‏ مَا عَنَّفَنِي أَحَدٌ مُنْذُ فَارَقْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ‏:‏ وَقَالَ‏:‏ إِنَّ مَنْزِلِي مْنْزَاحٌ، فَلَوْ صَلَّيْتُ وَتَرَكْتُهُ، لَمْ آتِ أَهْلِي إِلَى اللَّيْلِ»، وذكَر أَنَّهُ قَدْ صَحِبَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فرأى من تَيْسِيرِهِ‏.‏ انتهى‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلِتُكْمِلُواْ العدة‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ ولْيُكْمِلْ من أَفْطَرَ في سفره، أو في مرضه عدَّةَ الأيام التي أفطر فيها‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلِتُكَبِّرُواْ الله‏}‏ حضٌّ على التكبير في آخر رمضان‏.‏

قال مالكٌ‏:‏ وهو من حينِ يَخْرُجُ الرجلُ من منزله إِلى أنْ يخرج الإِمامُ إلى المصلى، ولفظه عند مالك وجماعةٍ من العلماء‏:‏ اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ؛ ثلاثاً‏.‏

ومن العلماء من يكبِّر، ويهلِّل، ويسبِّح أثناء التكبيرِ، ومنهم من يقول‏:‏ اللَّه أكبر كبيراً، والحمدُ للَّهِ كَثيراً، وسبحانَ اللَّهِ بُكْرةً وأصيلاً، وقيل غير هذا‏.‏ والجميعُ حسنٌ وَاسعٌ مع البداءة بالتكبير‏.‏

و ‏{‏هَداكُمْ‏}‏‏:‏ قيل‏:‏ المرادُ‏:‏ لِمَا ضَلَّ فيه النصارى من تبديلِ صيامِهِمْ، وتعميمُ الهدى جيدٌ‏.‏

‏{‏وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏}‏ ترجٍّ في حق البَشَر، أي‏:‏ على نعم اللَّه في الهدى‏.‏

* ص *‏:‏ ‏{‏وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏}‏ علَّةَ الترخيصِ والتيسيرِ، وهذا نوعٌ من اللَّفِّ لطيفُ المسلكِ انتهى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏186- 186‏]‏

‏{‏وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ‏(‏186‏)‏‏}‏

وقوله جلَّ وعلا‏:‏ ‏{‏وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع إِذَا دَعَانِ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآيةَ‏.‏

قال الحسنُ بْنُ أبي الحَسَن‏:‏ سببُها أن قوماً قالوا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أَقَرِيبٌ رَبُّنَا فَنُنَاجِيَهُ، أَمْ بَعِيدٌ فَنُنَادِيَهُ»، فنزلتِ الآية‏.‏

و ‏{‏أُجِيبُ‏}‏‏:‏ قال قومٌ‏:‏ المعنى‏:‏ أجيبُ إِن شئْتُ، وقال قوم‏:‏ إِن اللَّه تعالى يجيب كلَّ الدعاء، فإِما أن تظهر الإِجابةُ في الدنيا، وإما أن يكفِّر عنه، وإِما أن يُدَّخَرَ له أجرٌ في الآخرة، وهذا بحَسَب حديثِ «الموطَّإِ»، وهو‏:‏ ‏"‏ مَا مِنْ دَاعٍ يَدْعُو إِلاَّ كَانَ بَيْنَ إحدى ثَلاَثٍ‏.‏‏.‏‏.‏ ‏"‏ الحديثَ‏.‏

* ت *‏:‏ وليس هذا باختلاف قولٍ‏.‏

قال ابن رُشْدٍ في «البيان»‏:‏ الدعاءُ عبادةٌ من العبادات يؤْجر فيها الأجر العظيم، أَجيبَتْ دعوته فيما دعا به، أو لم تُجَبْ، وهأنا أنقل، إِن شاء اللَّه، من صحيح الأحاديث في هذا المَحَلِّ ما يَثْلَجُ له الصَدْرُ، وعن أنسٍ رضي اللَّه عنه قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ لاَ تَعْجِزُوا عَنِ الدُّعَاءِ؛ فَإِنَّهُ لَنْ يَهْلِكَ مَعَ الدُّعَاءِ أَحَدٌ ‏"‏ رواه الحاكم أبو عبد اللَّه في «المُسْتَدْرَكِ» على الصحيحين، وابن حِبَّانَ في «صحيحه»، واللفظ له، وقال الحاكم‏:‏ صحيحُ الإِسناد، وعن أبي هريرة- رضي اللَّه عنه- قال‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ الدُّعَاءُ‏:‏ سِلاَحُ المُؤْمِنِ، وَعِمَادُ الدِّينِ، وَنُورُ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ ‏"‏ رواه الحاكم في «المستدرك»، وقال‏:‏ صحيحٌ، وعن جابرِ بن عبدِ اللَّهِ- رضي اللَّه عنهما- عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ ‏"‏ يَدْعُو اللَّهُ بِالمُؤْمِنِ يَوْمَ القِيَامَةِ حتى يُوقَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَيَقُولُ‏:‏ عَبْدِي، إِنِّي أَمَرْتُكَ؛ أَنْ تَدْعُونِي، وَوَعَدْتُّكَ أَنْ أَسْتَجِيبَ لَكَ، فَهَلْ كُنْتَ تَدْعُونِي، فَيَقُولُ‏:‏ نَعَمْ، يَا رَبِّ، فَيَقُولُ‏:‏ أَمَا إِنَّكَ لَمْ تَدْعُنِي بِدَعْوَةٍ إِلاَّ استجبت لَكَ، أَلَيْسَ دَعَوْتَنِي يَوْمَ كَذَا وَكَذَا لِغَمٍّ نَزَلَ بِكَ؛ أَنْ أُفَرِّجَ عَنْكَ فَفَرَّجْتُ عَنْكَ‏؟‏‏!‏ فَيَقُولُ‏:‏ نَعَمْ، يَا رَبِّ، فَيَقُولُ‏:‏ فَإِنِّي عَجَّلْتُهَا لَكَ فِي الدُّنْيَا، وَدَعَوْتَنِي يَوْمَ كَذَا وَكَذَا لِغَمٍّ نَزَلَ بِكَ، أنْ أُفَرِّجَ عَنْكَ، فَلَمْ تَرَ فَرَجاً‏؟‏ قَالَ‏:‏ نَعَمْ، يَا رَبِّ، فَيَقُولُ‏:‏ إِنِّي ادخرت لَكَ بِهَا فِي الجَنَّةِ كَذَا وَكَذَا ‏[‏و‏]‏ كَذَا وَكَذَا، وَدَعَوْتَنِي فِي حَاجَةٍ أَقْضِيهَا لَكَ فِي يَوْمِ كَذَا وَكَذَا، فَقَضَيْتُهَا، فَيَقُولُ‏:‏ نَعَمْ، يَا رَبِّ، فَيَقُولُ‏:‏ فَإِنِّي عَجَّلْتُهَا لَكَ فِي الدُّنْيَا، وَدَعَوْتَنِي فِي يَوْمِ كَذَا وَكَذَا فِي حَاجَةٍ أَقْضِيهَا لَكَ، فَلَمْ تَرَ قَضَاءَهَا، فَيَقُولُ‏:‏ نَعَمْ، يَا رَبِّ، فَيَقُولُ‏:‏ إِنِّي ادخرت لَكَ فِي الجَنَّةِ كَذَا وَكَذَا ‏"‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ فَلاَ يَدَعُ اللَّهُ دَعْوَةً دَعَا بِهَا عَبْدُهُ المُؤْمِنُ إِلاَّ بَيَّنَ لَهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَجَّلَ لَهُ فِي الدُّنْيَا، وإِمَّا أَنْ يَكُونَ ادخر لَهُ فِي الآخِرَةِ، قَالَ‏:‏ فَيَقُولُ المُؤْمِنُ فِي ذَلِكَ المَقَامِ‏:‏ يَا لَيْتَهُ لَمْ يَكُنْ عُجِّلَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ دُعَائِهِ ‏"‏

، رواه الحاكم في «المستدرك»‏.‏

وعن ثَوْبَانَ- رضي اللَّه عنه- قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ لاَ يَرُدُّ القَدَرِ إِلاَّ الدُّعَاءُ ‏"‏، رواه الحاكمُ في «المستدرك» وابنُ حِبَّانَ في «صحيحه»، واللفظ للحاكمِ، وقال‏:‏ صحيحُ الإِسناد‏.‏

قلت‏:‏ وقد أخرج ابن المبارك في «رقائقه» هذا الحديثَ أيضاً، قال‏:‏ حدَّثنا سفيانُ، عن عبد اللَّه بن عيس عن عبد اللَّه بن أبي الجَعْد، عن ثَوْبَان، قال‏:‏ قَال رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ لاَ يَرُدُّ القَضَاءَ إِلاَّ الدُّعَاءُ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ ‏"‏ انتهى‏.‏

وعن عائشةَ- رضي اللَّه عنها- قَالَتْ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ لاَ يُغْنِي حَذَرٌ مَنْ قَدَرٍ، وَالدُّعَاءُ يَنْفَعُ مِمَّا نَزَلَ وَمِمَّا لَمْ يَنْزِلْ، وَإنَّ البَلاَءَ لَيَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ، فَيَتَلَقَّاهُ الدُّعَاءُ، فَيَعْتَلِجَانِ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ ‏"‏ رواه الحاكم في «مستدركه»، وقال‏:‏ صحيحُ الإِسناد، وقوله؛ «فَيَعْتَلِجَانِ»، أي‏:‏ يتصارعان‏.‏

وعن سَلْمَانِ- رضي اللَّه عنه- قال‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُسْتَجَابَ لَهُ عِنْدَ الكُرَبِ، وَالشَّدَائِدِ، فَلْيُكْثِرِ الدُّعَاءَ فِي الرَّخَاءِ ‏"‏، رواه الحاكمُ أيضاً، وقال‏:‏ صحيحُ الإِسناد، وعن ابْنِ عمر- رضي اللَّه عنهما- قال‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ مَنْ فُتِحَ لَهُ فِي الدُّعَاءِ مِنْكُمْ، فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الجَنَّةِ ‏"‏، قال الغَزَّالِيُّ- رحمه اللَّه- في كتابِ «الإِحياء»‏:‏ «فإِن قُلْتَ‏:‏ فما فائدةُ الدعاءِ، والقضاءُ لا يُرَدُّ‏؟‏ فاعلمْ أنَّ من القضاءِ رَدَّ البلاء بالدعاءِ، فالدعاءُ سببٌ لردِّ البلاء، واستجلابٌ للرحمة؛ كما أن التُّرْس سبب لردِّ السهم، ثم في الدعاءِ من الفائدة أنه يستدْعِي حضورَ القَلْب، مع اللَّه عزَّ وجلَّ، وذلك منتهى العبادَاتِ، فالدعاءُ يردُّ القلْبَ إِلى اللَّه عز وجلَّ بالتضرُّع والاستكانةِ»، فانظره، فإِني اثرت الاختصار، وانظر «سِلاَحَ المُؤْمن» الذي منه نقلْتُ هذه الأحاديثَ‏.‏

ومن «جامع الترمذيِّ»‏.‏ عن أبي خُزَامَةَ، واسمه رفَاعَةُ، عن أبِيهِ، قال‏:‏ ‏"‏ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ رُقًى نَسْتَرْقِيهَا، وَدَوَاءً نتداوى بِهِ، وَتُقَاةً نَتَّقِيهَا، هَلْ تَرُدُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ شَيْئاً‏؟‏ قَالَ‏:‏ هِيَ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ ‏"‏؛ قال أبو عيسى‏:‏ هذا حديث حسنً صحيحٌ‏.‏

وانظر جوابَ عمر لأبي عُبَيْدة «نَعَمْ، نَفِرُّ من قدر اللَّه إِلى قدر اللَّه‏.‏‏.‏‏.‏» الحديث هو من هذا المعنى‏.‏ انتهى، واللَّه الموفق بفضله‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي‏}‏ قال أبو رجاء الخُرَاسانِيُّ‏:‏ معناه‏:‏ «فَلْيَدْعُونِي»

قال‏:‏ * ع *‏:‏ المعنى‏:‏ فليطلبوا أن أجيبهم، وهذا هو بابُ «استفعل»، أي‏:‏ طلب الشيء إِلا ما شَذَّ؛ مثل‏:‏ استغنى اللَّهُ‏.‏

وقال مجاهد وغيره‏:‏ المعنى‏:‏ فليجيبوا لي فيما دعوتهم إِلَيْه من الإِيمان، أي‏:‏ بالطاعة، والعملِ‏.‏

فائدةٌ‏:‏ قال صاحب «غاية المَغْنَم في اسم اللَّه الأَعْظَم» وهو إِمام عارفٌ بعلْمِ الحديث، وكتابه هذا يَشْهَدُ له، قال‏:‏ ذكر الدِّينَوَرِيُّ في «كتاب المُجَالَسَة»، عن ليثِ بنِ سُلَيْمٍ؛ أن رجلاً وقَفَ على قوم، فقال‏:‏ مَنْ عنده ضيافةٌ هذه الليلةَ، فسكَتَ القومُ، ثم عاد، فقالَ رجُلٌ أعمى‏:‏ عندي، فذَهَبَ بِهِ إلى منزله، فعشَّاه، ثم حدَّثه ساعةً، ثم وضع لهُ وَضُوءاً، فقام الرجُلُ في جَوْف اللَّيْلِ، فتوضَّأ، وصلى ما قُضِيَ له، ثم جَعَلَ يدعو، فانتبه الأعمى، وجَعَلَ يسمع لدْعَائِهِ، فقال‏:‏ اللَّهُمَّ، ربَّ الأرواحِ الفانيةِ، والأجسادِ الباليةِ، أسألُكَ بطَاعَةِ الأرواحِ الرَّاجعَةِ إلى أجسادها، وبطاعةِ الأَجْسَادِ الملتئمَةِ في عروقها، وبطاعة القُبُور المتشقِّقة عن أهلها، وبدَعْوتِكَ الصادقةِ فيهم، وأخذِكَ الحقَّ منهم، وتبريز الخلائقِ كلِّهم من مخافَتِكَ ينتظرُونَ قضاءَكَ، ويرْجُون رحمتَكَ، ويخافُونَ عذابَكَ، أَسأَلُك أنْ تَجْعَلَ النُّور في بَصَري، والإِخلاصَ في عَمَلِي، وشُكْرَكَ في قَلْبِي، وذِكْرَكَ في لِسَانِي في الليلِ والنهارِ، ما أبقيتَنِي، قال‏:‏ فَحَفِظَ الأعمى هذا الدعاءَ، ثم قَامَ، فَتَوضَّأ، وصلى ركعتَيْنِ، ودعا به فأصْبَحَ قدْ رَد اللَّهُ عليه بَصَرَهُ‏.‏ انتهى من «غاية المَغْنَم في اسم اللَّه الأعظَم»، وإِطلاَقُ الفناءِ على الأرواحِ فيه تجوُّز، والعقيدةُ أن الأرواح باقيةٌ لا تفنى، وإِنَّما عبر عن مفارقتها لأجسادها بالفَنَاءِ، هذا هو مراده‏.‏

وروى ابنُ المبارك في «رقائقه» بسنده عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أنه قَالَ‏:‏ ‏"‏ إِنَّ القُلُوبَ أَوْعِيَةٌ، وَبَعْضُهَا أوعى مِنْ بَعْضٍ، فادعوا اللَّهَ أَيُّهَا النَّاسُ، حِينَ تَدْعُونَ، وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالإِجَابَةِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَجِيبُ لِعَبْدٍ دَعَاهُ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ غَافِلٍ ‏"‏ انتهى‏.‏

قال ابن عطاء اللَّهِ في «لطائفِ المِننِ»‏:‏ وإِذا أراد اللَّه أن يعطِيَ عبداً شيئاً وهبه الاضطرار إِلَيْهِ فيه، فيطلبه بالاِضطرارِ، فيعطى، وإِذا أراد اللَّه أن يمنع عبداً أمراً، منعه الاضطرَار إِلَيْه فيه، ثم منعه إِياه، فلا يُخَافُ علَيْكَ أن تضطرَّ، وتطلب، فلا تعطى، بل يُخَافُ عليك أنْ تُحْرَمَ الاضطرارَ، فتحرم الطَّلَب، أو تَطْلُب بغير اضطرارٍ، فتحرم العطاء‏.‏ انتهى‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلْيُؤْمِنُواْ بِي‏}‏، قال أبو رجاءٍ‏:‏ في أنَّني أجيبُ دعاءهم، وقال غيره‏:‏ بل ذلك دعاءٌ إِلى الإِيمان بجملته‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏187- 188‏]‏

‏{‏أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ‏(‏187‏)‏ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏188‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآيةَ‏:‏ لفظة ‏{‏أُحِلَّ‏}‏ تقتضي أنه كان محرَّماً قبل ذلك، و‏{‏لَيْلَةَ‏}‏‏:‏ نصب على الظَّرْف‏.‏

و ‏{‏الرفث‏}‏‏:‏ كناية عن الجِمَاع؛ لأن اللَّه تعالى كريمٌ يُكَنِّي؛ قاله ابن عَبَّاس وغيره، والرَّفَثُ في غير هذا‏:‏ ما فَحُشَ من القول، وقال أبو إِسْحَاق‏:‏ الرَّفَثُ‏:‏ كلُّ ما يأتيه الرجُلُ، مع المرأة من قُبْلةٍ، ولَمُسٍ‏.‏

* ع *‏:‏ أو كلامٍ في هذا المعنى، وسببُ هذه الآيةِ فيما قال ابن عَبَّاس وغيره‏:‏ إِن جماعةً من المسلمين اختانوا أنفُسَهُم، وأصابوا النِّسَاء بعد النَّوْم، أو بعد صلاة العشَاء على الخلافِ في ذلك، منْهم عُمَرُ بْنُ الخَطَّاب‏:‏ جاء إِلى امرأته، فأرادها، فقالَتْ له قد نِمْتُ، فَظَنَّ أنها تَعْتَلُّ بذلك، فوقع بها، ثم تحقَّق أنها قد كانت نامَتْ، وكان الوطْءُ بعد نَوْمِ أحدهما ممنوعاً، فذهب عُمَرُ، فاعتذر عنْدَ رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم، فنَزَلَ صدْرُ الآية، وروي أن صِرْمَةَ بْنَ قَيْسٍ نام قَبْل الأكْلِ، فبقي كذلك دُونَ أكْلٍ، حتى غُشِيَ علَيْهِ في نهارِهِ المُقْبِلِ، فنَزَلَ فيه مَنْ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكُلُواْ واشربوا‏}‏‏.‏

واللِّبَاسُ‏:‏ أصله في الثِّيَاب، ثم شبه التباس الرَّجُلٍ بالمرأةِ بذلك‏.‏

وتَابَ عَلَيْكُمْ، أي‏:‏ من المعصية التي وقعتم فيها‏.‏

قال ابنُ عبَّاس وغيره‏:‏ ‏{‏باشروهن‏}‏ كنايةٌ عن الجماعة، ‏{‏وابتغوا مَا كَتَبَ الله لَكُمْ‏}‏‏.‏

قال ابن عبَّاس وغيره‏:‏ أي‏:‏ ابتغوا الوَلَدَ، قال الفَخْر والمعنى‏:‏ لا تباشروهن لقضاء الشهوة فقطْ، ولكنْ لابتغاء ما وَضَعَ اللَّه له النِّكاح من التناسُلِ، قال عليه السلام‏:‏ ‏"‏ تَنَاكَحُوا، تَنَاسَلُوا؛ فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الأُمَمَ ‏"‏ انتهى‏.‏

وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ ابتغوا ليلةَ القَدْرِ‏.‏

وقيل‏:‏ ابتغوا الرُّخْصَة، والتوسعَةَ؛ قاله قتادة، وهو قول حَسَنٌ‏.‏

‏{‏وَكُلُواْ واشربوا حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآيةُ‏:‏ نزلت بسبب صِرْمَةَ بْنِ قَيْسٍ، و‏{‏حتى‏}‏‏:‏ غايةٌ للتبيُّن، ولا يصحُّ أن يقع التبيُّن لأحد، ويحرم عليه الأكل إِلا وقدْ مَضَى لطُلُوع الفجْرِ قدْرٌ، والخيط استعارةٌ وتشبيه لرقَّة البياضِ أولاً، ورقَّةُ السوادِ إِلحاقٌ به، والمرادُ فيما قال جميع العلماء‏:‏ بياضُ النهارِ، وسوادُ الليل‏.‏

و ‏{‏مِنَ‏}‏ الأولى لابتداء الغايةِ، والثانيةُ للتبعيض، و‏{‏الفجر‏}‏‏:‏ مأخوذ من تَفَجُّر الماء؛ لأنه ينفجر شيئاً بعد شيْء، وروي عن سَهْل بن سعدٍ وغيره من الصحَابة؛ أن الآية نزلَتْ إِلا قوله‏:‏ ‏{‏مِنَ الفجر‏}‏، فصنع بعض الناسِ خَيْطَيْنِ، أَبْيَضَ وأسْوَدَ، فنزَلَ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مِنَ الفجر‏}‏‏.‏

* ع *‏:‏ ورُوِيَ؛ ‏"‏ أنَّهُ كَانَ بَيْنَ طرفَيِ المُدَّة عامٌ من رمَضَان إِلى رمَضَان تأخّر البيان إِلى وقت الحاجة، وعَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ جعل خيطَيْن على وسَادِهِ، وأخبر النبيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهُ‏:‏ «إِنَّ وِسَادَكَ لَعَرِيضٌ» ‏"‏‏.‏ واختلف في الحدِّ الذي بتبيُّنه يجبُ الإِمساك، فقال الجمهورُ، وبه أخذ الناس، ومضَتْ عليه الأمصار والأعصار، ووردتْ به الأحاديثُ الصِّحَاحُ‏:‏ إِنه الفَجْر المُعْتَرِضُ في الأُفُقِ يَمْنَةً ويَسْرَةً، فبطلوعِ أوله في الأفق يجبُ الإمساكُ، وروي عن عثمانَ بن عفَّان، وحذيفةَ بن اليَمَانِ، وابن عبَّاس وغيرهم؛ أن الإِمساك يجبُ بتبيُّن الفَجْر في الطُّرُق، وعلى رءوس الجبالِ، وذكر عن حُذَيفة؛ أنه قال‏:‏ «تَسَحَّرْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ النَّهارُ إِلاَّ أنَّ الشَّمْسَ لَمْ تَطْلُعْ»‏.‏

ومن أكل، وهو يشكُّ في الفجر، فعليه القضاء عند مالك‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى اليل‏}‏ أمر يقتضي الوجوب، و‏{‏إلى‏}‏‏:‏ غايةٌ، وإِذا كان ما بعدها من جنْسِ ما قبلها، فهو داخلٌ في حكمه، وإِذا كان من غير جنْسه، لم يدخلْ في المحدودِ، والليلُ‏:‏ الذي يتم به الصيامُ‏:‏ مَغِيبُ قرص الشمسِ، فمن أفطر شاكًّا في غروبها، فالمشهورُ من المَذْهَب؛ أنَّ عليه القضاءَ والكفَّارةَ‏.‏

وروى أبو هريرة عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أنَّهُ قَالَ‏:‏ ‏"‏ ثَلاَثةٌ لاَ تُرَدُّ دَعْوَتُهُمْ‏:‏ الصَّائِمُ حِينَ يُفْطِرُ، والإِمَامُ العَادِلُ، ودَعْوَةُ المَظْلُومِ، يَرْفَعُهَا اللَّهُ فَوْقَ الغَمَامِ، وَتُفْتَحُ لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَيَقُولُ الرَّبُّ تعالى‏:‏ وَعِزَّتِي، لأَنْصُرَنَّكِ، وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ ‏"‏ رواه الترمذيُّ، وابن ماجة، وابن حِبَّان في «صحيحه»، وقال الترمذيُّ‏:‏ واللفظ له؛ حديثٌ حسنٌ، ولفظ ابن ماجة‏:‏ «حتى يُفْطِرَ»‏.‏ انتهى من «السِّلاح»‏.‏

وعنه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إِنَّ لِلصَّائِمِ عِنْدَ فِطْرِهِ لَدَعْوَةً مَّا تُرَدُّ ‏"‏، رواه ابنُ السُّنِّيِّ‏.‏ انتهى من «حِلْيَة النوويِّ»‏.‏

وعنه صلى الله عليه وسلم؛ أنَّهُ قَالَ‏:‏ ‏"‏ لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ فَرْحَةٌ عِنْدَ فِطْرِهِ، وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ ‏"‏ رواه البخاريُّ ومسلم‏.‏ انتهى‏.‏

وروى ابنُ المبارك في «رقائقه»، قال‏:‏ أخبرنا حمَّاد بن سَلَمَةَ، عن واصل مولى أبي عُيَيْنَة، عن لقيد أبِي المُغيرَةِ، عن أبي بُرْدَة‏:‏ أنَّ أبا موسَى الأَشْعَرِيَّ كَانَ في سفينة في البَحْر مرفوعٍ شراعُها، فإِذا رجُلٌ يقول‏:‏ يأَهْلَ السفينةِ، قِفُوا سبْعَ مرارٍ، فقلْنا‏:‏ ألا ترى على أيِّ حالٍ نحْنُ، ثم قال في السابعة، قِفُوا أخبرْكُمْ بقضاءٍ قضاه اللَّه على نَفْسِهِ؛ أنَّه من عَطَّشَ نَفْسَهُ للَّهِ في يومٍ حارٍّ من أيامِ الدُّنْيَا شديدِ الحَرِّ، كان حقًّا على اللَّه أنْ يرويه يوم القيامة، فكان أبو موسى يبتغي اليَوْمَ الشَّديدَ الحَرِّ، فيصومه‏.‏ انتهى‏.‏

قال يوسُفُ بن يَحْيَى التَّادِلِيُّ في «كتاب التشوُّف»، وخرَّج عبد الرزَّاق في «مصنَّفه» عن هشامِ بنِ حَسَّان، عن واصلِ بن لَقِيط، عن أبي بُرْدة، عن أبي موسَى الأشعريِّ، قَالَ‏:‏ «غَزَا النَّاسُ بَرًّا وبحراً، فكنْتُ ممَّن غَزَا في البَحْر، فبينما نحْنُ نسيرُ في البَحْر؛ إِذ سمعنا صوتاً يقول‏:‏ يأهل السفينة، قِفُوا أخبرْكُم، فنظرنا يميناً وشَمالاً، فلم نر شيئاً إِلا لُجَّةَ البحر، ثم نادى الثانيةَ؛ حتى نادى سبْعَ مراتٍ، يقول كذلك، قال أبو موسى‏:‏ فلما كانَتِ السابعةُ، قُمْتُ، فقُلْتُ‏:‏ ما تخبرنا‏؟‏ قال‏:‏ أخبركم بقضاءٍ قضاه اللَّه على نَفْسِهِ؛ أنَّ من عَطِشَ للَّه في يوم حَارٍّ، أنْ يرويه اللَّه يوم القيامة»، وذكره ابن حَبِيب في «الواضحة»؛ بلفظ آخر‏.‏

انتهى‏.‏

قال ابن المبارك‏:‏ وأخبرنا أبو بكر بن أبي مَرْيَم الغَسَّانيّ، قال‏:‏ حدَّثني ضَمْرَةُ بْنُ حَبِيبٍ، قال‏:‏ قَالَ رَسُولُ الَّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ بَاباً، وإِنَّ بابَ العبادة الصيام ‏"‏ انتهى‏.‏

وروى البخاريُّ ومسلم في «صحيحيهما»، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ ‏"‏ كُلُّ عَمَلِ ابن آدَمَ يُضَاعَفُ، الحَسَنَةُ بعَشْرِ أَمْثَالِهَا إلى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، قَالَ اللَّهُ‏:‏ إِلاَّ الصَّوْمَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، إِنَّمَا يَدَعُ شَهْوتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي ‏"‏ انتهى‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تباشروهن وَأَنتُمْ عاكفون فِي المساجد‏}‏ قالتْ فرقة‏:‏ المعنى‏:‏ ولا تجامعوهُنَّ، وقال الجمهور‏:‏ ذلك يقع على الجِمَاعِ، فما دونه ممَّا يُتلذَّذ به من النساء، و‏{‏عاكفون‏}‏، أيْ‏:‏ مُلاَزِمُون، قال مالكٌ- رحمه اللَّه- وجماعةٌ معه‏:‏ لا اعتكاف إلا في مساجد الجُمُعَاتِ، وروي عن مالكٍ أيضاً؛ أنَّ ذلك في كل مسجدٍ، ويخرج إِلى الجُمُعة؛ كما يخرج إِلى ضروريِّ أشغالِهِ، قال ابن العربيِّ في «أحكامه»‏:‏ وحرم اللَّه سبحانه المباشَرَةَ في المَسْجد؛ وكذلك تحرم خارجَ المَسْجِدِ؛ لأن معنى الآية، ولا تباشرُوهُنَّ وأنتم ملتزمون لِلاعتكاف في المساجد معتقدُونَ له‏.‏ انتهى‏.‏ و‏{‏تِلْكَ‏}‏ إِشارةٌ إِلى هذه الأوامر والنواهِي‏.‏

والحُدُودُ‏:‏ الحواجزُ بيْن الإِباحة والحظر؛ ومنه قيل للبوَّاب حَدَّاد؛ لأنه يمنع؛ ومنه الحَادُّ؛ لأنها تُمنع من الزينةِ، والآياتُ‏:‏ العلاماتُ الهاديةُ إِلى الحق‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَأْكُلُواْ أموالكم بَيْنَكُم بالباطل‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ الخطابُ لأمة نبيِّنا محمَّد صلى الله عليه وسلم ويدخلُ في هذه الآيةِ القِمَارُ، والخُدَعُ، والغُصُوب، وجَحْد الحُقُوق، وغَيْرُ ذلك‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الحكام‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ يقال‏:‏ أَدْلَى الرَّجُلُ بحجَّة، أو بأمْر يرجُو النَّجاح به، تشبيهاً بالذي يرسل الدَّلْو في البِئْر يرجُو بها الماءَ، قال قومٌ‏:‏ معنى الآية‏:‏ تُسَارعون في الأموال إِلى المخاصَمَة، إِذا علمْتم أنَّ الحُجَّة تقوم لكم؛ إِمَّا بأن لا تكون على الجاحِدِ بيِّنة، أو يكون مالَ أمانةٍ؛ كاليتيم ونحوه ممَّا يكون القولُ فيه قوله، فالباء في «بِهَا» باءُ السبب، وقيل‏:‏ معنى الآية‏:‏ تُرْشُوا بهَا على أكْل أكثر منْها، فالباء إِلزاقٌ مجرَّدٌ؛ وهذا القول يترجَّح لأن الحكَّام مَظِنَّةُ الرُّشَا، إِلاَّ من عُصِمَ، وهو الأقل، وأيضاً، فإِن اللفظتين متناسبتَان‏.‏

‏{‏تُدْلُواْ‏}‏‏:‏ من إِرسال الدلْوِ، والرِّشْوَةُ‏:‏ من الرِّشَاءِ؛ كأنها يمدُّ بها؛ لتقضي الحاجة‏.‏

والفريقُ‏:‏ القطْعة، والجزء‏.‏

و ‏{‏بالإثم‏}‏ أي‏:‏ بالظلم‏.‏

‏{‏وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ أي‏:‏ أنكم مبطلون‏.‏